محمد الشربيني
اللوحة للفنان الألماني بول كلي
في قريتنا البعيدة كان عجوز ذو لحية مبعثرة وملابس رثة، يجلس بفناء بيته صامتا، يرقب المارة دون اكتراث، وفي طقس شبه يومي تجمعنا الجدة العجوز؛ لتروي لنا حكاية ذلك المجنون المتجهم، الذي يتصيد الأطفال ويوزع الحلوى الملعونة عليهم، وتحذرنا من الاقتراب منه، أو الحديث معه، لم تكن الجدة تكترث كثيرا لأمر الحلوى، وكنت صغيرا أعشقها، فهي ألذ من كلام الجدة، أو هكذا كنت أعتقد.
متعثرا بكلماتها كنت أتحين الوقت لأقترب منه، لأنتزع نصيبي من يديه وأمضي مسرعا نحو الأشجار العتيقة قبالة بيته لألتهمها، ويما فيوما صارت بيننا ألفة، فكان يلقاني باسما ويمد يده بالمقسوم، ذات مرة بادرته: لماذا تحذرنا الجدة العجوز منك؟ باسما قال، لأن الجدة كبيرة كفاية لتدرك الخطر، سألته: وأي خطر في الحلوى؟ قال محتدا، خذ حلواك واذهب بعيدا.
أعواما توالت وأنا آخذ الحلوى وأمضي دون أن أتجرأ على سؤاله، الي أن جاء موعد الرحيل.. دوي قطار العاصمة يوقظ قريتنا في صباح ليس ككل صباح، وها قد ذهبت بعيدا أيها العجوز، بعيدا جدا، العاصمة، الجامعة، الأدب الشعر الرسم الموسيقي، الحب، السعادة والشقاء، دوامة الجهل والمعرفة؛ لم ينتبني شعور بالإعياء كالذي داهمني حين أحسست بدوي قطار العاصمة عندما كنت في طريقي إلي قريتنا، ودونما تفكير أخذتني الخطى الى العجوز ذو اللحية المبعثرة، باسما بادرته أين نصيبي من الحلوى؟ شاردا توكأ على عصاه ودلف إلى بيته، ثم عاد متثاقلا، وقبل أن يمد يده إلي، حزينا قال: لا تتأخر في إعداد فناء بيتك، تلك هي الحلوى الملعونة التي حذرتك منها جدتك مرارا، ومد يده وأعطاني كتبا، ثم غاب.
وها أنا ذا أجلس في فناء بيتي صامتا، أرقب المارة دون اكتراث في طقس شبه يومي.