عمرو حويلة
اللوحة للفنان فــان جــوخ
ثمت شيء غريب، تلك الأغصان التي تعرت من الخريف رغم أن النهر لم يبخل عليها بحفنة من الماء لتروى جذورها، ولم تقابل عصافيرها هذا الجفاء إلا بتقاطيع من الغناء.
لم يتغير الأمر كثيرا عندما اتخذت ذلك الكوخ القديم على الشاطئ..
قيل: إنها فرت هاربة من أهلها، أو إنها أتت بعدما احترق منزلها في بلدتها البعيدة، أو ربما تركت جماعات الغجر بعد أن ملت حياة السعي حول الكلأ والماء ..
سنوات ولا أحد يسأل عن ذلك الماضي الذي استأثرت به لنفسها، حتى ذلك الصياد الذي كان يهتم ببعض شؤونها لم يستطع يوما أن يسألها عن ذلك السر، عندما يقوم بوضع مرساة قاربه قرب مسكنها الذي كان مشرفا على الطريق.
صمتها الطويل جعلها في عزلة عن الناس، الأمر الذي كانوا يظنون أن لسانها التصق بسقف حنكها، جعلهم يطلقون عليها السيدة الخرساء أو سيدة النهر.
عندما يهبط الظلام ويقوم النهر باحتضان الشاطئ وعليه كوخها، تتخذ من صخرة لها متكأ تسمع منها انسياب الماء وتقافز الأسماك الملونة التي تتراءى في الليلة الظلماء وهي تمضي بين الصخور.
تملكه الخوف وهو يرمي بشباكه في ساعة متأخرة من الليل، تسلل بعينيه يشاهد شعرها الطويل وقد حلت عنه عصابتها وهي تسبح بالماء كواحدة من أسماك البحار الكبيرة، ازداد تعجبه عندما سمع صوتا من بعيد صادرا عن ذلك الناي الذي يتكرر في كل ليلة، لم يدرك أن هذا الصوت يأتي من كوخها، أو أنها اتخذت من أعواد البوص ما يشبه عود الناي.
قالت: عندما يغيب هدير الأمواج أستأنس به حتى ينقشع الظلام.
تغيب وتعود، لا أحد يعرف متى غابت ومتى عادت، ولكنها اعتادت على ملء “زير المياه” تحت شجرة التوت المجاورة لكوخها الطيني لسقاية السابلة.
انتابتهم الدهشة، كان” الزير” مهشما، تفرقوا في البحث عنها لم يجدوها، لكن الأقدام العارية التي غاصت في الرمال وتتجه إلى باب الكوخ، كاد يتلاشى أثرها بفعل مد الأمواج في النهر، لكن قطعة كبيرة مشقوقة من ردائها معلقة ومتشابكة بأغصان الشجرة، ازدادت شكوكهم حول ما حدث لهذه السيدة، يومان مرا ولا أثر لهذا الاختفاء.
قال البعض: ربما غرقت في النهر.
نعم .. نعم.. فالنهر كان ثائرا في الأيام الماضية.
الصياد: إنها تجيد السباحة، ولكن لو غرقت لن يظهر أثرها إلا بعد مرور سبعة أيام عليها في الماء.
جدل يزداد أثناء مرور هذه الأيام المحددة، قيل ربما وقعت في الخطيئة، وقتلها واحد من الذين يغارون على الشرف.
لا ..لا.. لم نعرف عنها شيئا من هذا القبيل، مما حدا بواحد أن يقسم إنه رآها وهي تسقي زوار مقام “سيدي أحمد البدوي” وفي يدها إبريق نحاسي، لم يجزم هل هي أم شبيهة لها..؟
عنما أوكل الأمر للعراف، أخبرهم أن هذه السيدة متزوجة من عالم الجن، وأنها أخذت لتحيا أسفل الماء في عالم البحور.
رغبة تدفعهم لأن يصدقوا ما جاء به، فهي الوحيدة التي تجاسرت على النهر ليلا، وعاشت على ضفافه، حذرهم إنها عقيم وسوف تقوم بخطف واحد من أطفالهم إذا مر بالقرب من ذلك الكوخ على الطريق.
تطوع واحد من الناس بوضع مشعل من الزيت معلقا أمامه في كل ليلة، ازداد خبر هذه السيدة انتشارا على الألسنة، لدرجة أن الأطفال قالوا إنهم شاهدوها تقفز بردائها المشقوق في الحقول بين أعواد القصب في وقت الظهيرة.
وقال واحد من الفلاحين في القرية إنها كانت قابعة بجوار الساقية، ولا يوجد ثور معلق بها بينما الماء ينساب في حوض الساقية.
وعاد صوت الناي يسمعه الصياد يصدر من الكوخ بعد أن تكاثرت عليه أعواد البوص، وحكي أنه شاهدها وهي تستحم بردائها المشقوق، بينما شعرها كان يغطي كامل وجهها، همست إليه ولكنه لم يعرها انتباها.
ازدادت النساء خوفا على أطفالهن عندما سمعوا طرقات على الأبواب في ساعة متأخرة من الليل، ولا أثر للطارق سوى شبح رداء يخفق في الظلام كلما أطلن النظر إليه.
ظل اختفاؤها في حكايات الرجال وثرثرة النساء، ولم يبق من سيدة النهر غير قطعة من الرداء ظلت عالقة بأغصان الشجرة، لم يستطع أحد أن يلمسها، خشية أن تصيبه تلك اللعنة، وصوت ذلك الناي الذي يعود للغناء كلما جن المساء.