اللوحة: الفنان الأكراني دانييل فولكوف
في بلدتنا الصغيرة لا يفكر أحد أو يجول بخاطره بأن يسأل الآخر عن دينه، فالحب في قلوبنا صادق وفطري لا تلوثه أحقاد أو تشدد ديني.. جلس بجواري على مقعدي بالمدرسة بأدب جم، تأملته فوجدت ملامحه تشبهني، سألته عن اسمه فقال سامح عادل ميخائيل، ومنذ هذه اللحظة وقبل أن تتوطد علاقتنا كأن روحينا تعلقا برباط مقدس.
تحدينا كل من يحاول أن يدمر هذه العلاقة الإنسانية الجميلة، ومنهم زميل في المرحلة الثانوية بدأ يتبع فكرا متشددا وحثني على مقاطعة سامح بدعوى انه مسيحي، وسرد لي حديث النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل».
ارتبكت، واحترت، ولم تسعفني خبرتي المتواضعة في الحياة، وضعف الاطلاع في شؤون الدين بالرد على هذا الزميل، فلم أجد من ألجأ إليه إلا أبي الذي هرولت إليه طالبا النصح، فقال بصوته الهادئ وحكمته الكبيرة: «يابني طول عمرنا متربين سوا مسيحي ومسلم، بنقسم اللقمة سوا وشغلنا سوا، يومنا كله مع بعض والفرق الوحيد أن صاحبي المسيحي بيدخل يصلي في الكنيسة وأنا بدخل أصلي في الجامع «.. وقعت كلمات والدي بردا وسلاما على قلبي وعقلي، وشعرت بطمأنينة كبيرة، وبدأت عيناي تتفتحان على معاني المحبة والتراحم والود دون النظر إلى الدين.
تعمقت بيننا علاقة المحبة والأخوة، وكنا نتبادل الزيارات خصوصا في السنة النهائية في الثانوية العامة، وعندما كان يسمع صوت الأذان يتوقف ويطالبني بالذهاب إلى الصلاة، وكثيرا ما انتظرته في حديقة الكنيسة حتى يفرغ من صلاته.. وكان والده يرحمه الله دوما يحملني السلام لوالدي في ختام كل زيارة لسامح، أما والدته فكانت تصر أن اتذوق ما لذ وطاب من طعامها الجميل، وشقيقته كانت تقابلني دائما بوجه بشوش وابتسامة جميلة.
أنهينا شهادة الثانوية، وشاء القدر أن نلتحق معا بكلية الآداب، اختار هو دراسة علم النفس وأنا التاريخ، وعندما كنا نلتقي على هامش المحاضرات كان الحديث لا يخلو من قفشات ونوادر واسترجاع لأهم ذكرياتنا الجميلة.. وكانت لنا لغة مشتركة نخلط بها العربية بالعامية.. كانت تضفي على الحديث مذاقاً جميلاً.
ذات مرة وجدت زميلة تقول لي شقيقك كان هنا من دقائق وسأل عليك.. قلت لها ليس لي أشقاء في الكلية.. ردت باندهاش: أليس من يقف معك دوما شقيقك؟ قلت لها: لا هو صديقي ولكنه في مكانة شقيقي.. كانت بالفعل ملامحنا تتشابه كثيرا، من الشارب وتجاعيد الوجه وشعر الرأس الكثيف، وهو ما كان يسعدني كثيرا، لأن التقارب لم يكن روحيا فقط بل كان أيضا في الملامح.
تخرجنا في الجامعة، وأبت الظروف أن تفرقنا لنبدأ مشوار العمل في العاصمة، ولكن كل منا في مجال مختلف وبعيد عن دراسته، عمل سامح في شركة لاستكشافات البترول، بينما ذهبت بمحض إرادتي إلى بلاط «صاحبة الجلالة» الصحافة مهنة البحث عن المتاعب التي كنت أعشقها من نعومة أظافري.
للمرة الأولى تفرقنا الأيام، فقد سافرت للعمل بالخارج عدة أعوام.. وخلال اجازاتي القصيرة كنت التقي بشقيقي القبطي لمعرفة اخباره والاطمئنان على أحواله.. كانت سويعات قصيرة، ولكنها كانت كافية للاطمئنان على صديق العمر.. وعندما استقر بي المطاف بعد رحلة شاقة في الغربة، كان أول من بحثت عنه بعد أعوام الغربة هو سامح، لم يكن معي رقم هاتفه، ولكن تذكرت أنني دونت رقم هاتف شركته ووضعته بين أوراقي الهامة في أحد أدراج مكتبي.. اتصلت بالشركة وعرفت مواعيد عمله، وفجأة وجدني على الهاتف أقول له باشتياق: «وحشتني».