رقص على حافة ما

رقص على حافة ما

حنان الأغا

اللوحة من أعمال الكاتبة

رأسي جسم كرويّ مجوف بما يسمح للدماغ بالتقافز هنا وهناك، يلتجئ إلى هذا الجدار أو ذاك، كلما تحرك هذا الجسم الكرويّ، فأحس بانعدام نسب الأشياء، وانعدام لونها وشكلها، وصولا إلى انعدام طعمها وحتى ملمسها.

هذا الحديد الصدئ أمامي، حسبته مروحة قد تبرّد تلك الأبخرة الحرّى التي تنبعث من مسامّي. ها هو يمتد وقوفا لساعات، ولمسافات، إلا أنه يتوقف فجأة، للحظات لا تكفيه لحفظ توازنه فيتهاوى جزء منه، وتنفتح على وسعها أعمدته المروحية من أعلى، فيما تبقى مضمومة ملتوية من الأسفل، فتميل باتجاه الأرض المغطاة بالصقيع، مكونة هضابا عجيبة من معدن متهالك.

تعتريني رغبة بالضحك وأنا أحس بأشياء تدغدغ باطن قدميّ، فأضحك، هو ملمس الحديد البارد المغطى بحبيبات الصدأ، لكن ألواني وقعت مني وانفرطت أرضا، فمن لي بمن يلمها قبل أن أفقد المشهد؟

ـ أرجوكم هي لي، نعم وقعت مني، شكرا.. وتلك الفرشاة هناك أيضا.

ـ هكذا تماما.

وأمد ذراعي بالفرشاة المغموسة باللون البني المحمر الداكن، أمدها على امتدادها لأرسم لوحتي الجديدة، جداريّتي التي ستؤرخ للأقدام الصغيرة والكبيرة الدائبة السير مندفعة باتجاهين متعاكسين، براحة رغم الركض، ونعومة رغم الألم.

أسمع صوت ضحكات مكتومة، فأضحك أنا الأخرى ويدي مستمرة بتلوين مساحة كبيرة من الجدارية، أريد الآن فرشاة أصغر، أحتاج لرسم بعض التفاصيل، فأمد يدي فجأة لتناولها، فأحس بأشياء تقيد يدي، تمسكها لكن بحنان.

ـ ماذا؟ دعوا يدي.

ـ أمي لا تقلقي.. هذه أنا، أعطني الكوب فقد تناثر الماء.. دعيني أجففه.

أحس ببرودة المعدن تلسع أضلاعي، فأصرخ:

ـ دثروني.. البرد يقتلني، يحرقني، يجمدني.. لا أدري.

لكن أين أجد ما يكفي لتغطيتهم؟ لقد عصفت بنا رياح سموم أخطأت وقتها، فحولت شتاءنا سعيرا من بنادق وصقيع وجوع.

ماذا تفعل دمعاتي هذه وسط يباب الأرواح!

أفتح عينيّ لأرى العينين الباسمتين تتلألأ فيهما دمعتان بعد أن سقطت أخريان على خديّ، أكابد ابتسامة منع تكونها جفاف شفتيّ المحترقتين، فأبكي.

ـ جرحي صغير لا تقلقي.. هم من يقلقني أمرهم.

ثم أغرق في بكاء منغّم محشو بالكلمات، يقطعه الصوت القلق إلى جانبي:

ـ أنت هنا في سريرك، لم يصبك رصاص ولا حديد ولا حجر.

أصغي باهتمام وتركيز محاولة اللحاق بهم، وسماع أصواتهم وأنادي:

ـ أين هم ؟ أين أنتم ؟ أين ذهبت الأصوات، وهذا اللغط أين تبدد ؟

يد تربت صدري بإيقاع منتظم رقيق، فأنسحب ببطء وهدوء وأغلق كل الأبواب .

أسمعني، أسمع كلماتي تنطلق قذائف وحمما ملتهبة :

ـ بهدوء، دون فوضى، اخرجوا مسرعين، واتركوا كل شيء .. النار تقترب .. خذوا الصغار والأوراق واقفزوا .

كيف ؟ نعم كيف ؟ يا لفجيعتي .. كيف نخرج وليس هناك غير باب واحد مغلق ؟ وأنا أحترق ولا أملك ملابس واقية، هو الجنون كيف لا؟

ـ افتحي فمك قليلا حبيبتي .

لا مهرب إلا هذا الجبل سنتسلقه،  لا تخشوْا ارتفاعه، لطالما تسلقته، إن فيه بعض صخور رملية مبعثرة تساعد على تثبيت الأحذية فلا تنزلق .

تسلقت الجبل كعادتي بسرعة أصواتهم تناديني .. نظرت فإذا بهم ينتظرون، حاولت النزول عندما اكتشفت أنني حافية القدمين، هكذا أنا مندفعة دائما، وفكرت:

ـ الصعود سهل ولكن النزول من هذا الارتفاع أمر مرعب، تماما كما أنا في أحلامي، أصعد أعلى القمم بسهولة ومتعة، وأصاب بخوف النزول، هي فوبيا أعاني منها دائما، سأحاول مضطرة.

وضعت قدمي العارية على نتوء في الجرف الأملس فانزلقت، ودوت صرختي ورجع صداها يجلجل في الكون .

أسمع همهمات وأرى عيونا كثيرة وأشياء لامعة فأغمض عينيّ وأبكي بمرارة.

ـــ أعرف ماذا حدث .. مات الجنين . لا داعي للإخفاء .

ــ أمي، هذا غير صحيح، افتحي عينيْك.

ـــ إذا هي ذراعي، بترت أو شلت.

وأنخرط في بكاء صوته يقطع قلبي، أفتح عينيّ بجهد، أجد الوجوه الباسمة والعيون القلقة حولي، ويدا ناعمة تمسح عرقي .

ـــ أنت تغرقين في عرقك، دعيني أسحب ذراعك من تحتك ..نعم هكذا.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s