جولييت المصري
اللوحة: للفنان الإنجليزي جون مارتن بعنوان “الوباء السابع في مصر”
على مر العصور تعرضت البشرية للإبادة الجماعية، إما لقسوة هجوم الطبيعة، بما فيها من أعاصير وحرائق وبراكين وزلازل؛ كانت تترك وراءها الخرائب والقتلى والمصابين بالملايين، أو بيد الإنسان نفسه، بما يشنه من حروب وغارات، وبما يتسبب فيه من ويلات.
ومن المألوف جدا أن يسعى الإنسان لتحجيم هجمات الطبيعة ضده، والسيطرة عليها أو التقليل من مصائبها بالعلم والمعرفة، لكن الأغرب أن يتآزر البشر مع الطبيعة لإبادة جنسهم باستخدام نفس السلاح: العلم والمعرفة، فينفق طائل المال في استنساخ الفيروسات وتخليقها، ويعكف على ألوان البحث العلمي ليتلاعب في الجينات، ويصنع بيديه مقتله.
لقد تأثرت المجتمعات البشرية بهجمات فيروسية ميكروبية كثيرة عرضتها للإبادة، وأثرت في سير الحياة الاجتماعية والاقتصادية والنفسية لساكنيها، وقد يتسبب في حدوث الأوبئة عوامل من صنع الإنسان أو الطبيعة؛ تؤدي إلى تغير البيئة، وزيادة الوفيات بشكل ملحوظ كما فعل كورونا، الذي ينتشر مؤخرا في كل أنحاء العالم، وتصنيفه كوباء أثر تأثيراً كبيراً على صحة السكان النفسية والبدنية، وعلى فرص النمو الاقتصادي للبلدان، وسبب تفككاً اجتماعياً اقتصادياً كبيراً، ناهيك عن الخسائر في الأرواح.
بدأت أول جائحة، أو وباء عالمي، في عام 1817 من منطقة توطنها في جنوب شرق آسيا وانتشرت بعد ذلك إلى مناطق أخرى من العالم. وأحدثت الجائحة الأولى وتوابعها خسارة كبيرة في الأرواح، حيث انتشرت في كل أرجاء العالم قبل أن تنحسر.
بالإضافة إلى المعاناة البشرية التي تسببها الكوارث والاوبئة، فإنها تحدث هلعاً وتمزقاً في البنية الاجتماعية والاقتصادية، ويمكنها أن تعوق التنمية في المجتمعات الموبوءة، فتؤثر على وسائل الانتقال والتواصل، وتحد من السفر والتبادل التجاري، وتفرض القيود على استيراد أغذية معينة، مما يزيد الأسعار، ويعرض بعض المجتمعات للمجاعات.
وقد تطورت الفيروسات مع مرور الزمن كما تطور البشر، فاستطاعت أن تتحور لتنتقل من الحيوان إلى الإنسان كلما تهيأت لها الظروف، ومع التوسع العمراني والزيادة السكانية وزحف البشر نحو الغابات، زادت مخاطر الإصابة بالأمراض المنقولة من الحيوانات، مثل “متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد” و”حمى الإيبولا النزفية“.
وإذا كان لزاما أن نتحدث عن تداعيات “كورونا”، وما أحدثه ويحدثه في العالم حولنا، فإن تلك التجربة ليست الوحيدة التي مر بها العالم، فقد تقلبت الأرض في تلك الويلات كثيرا، من طاعون لكوليرا لجدري لملاريا، وأخيرا تطل الأنفلونزا بعائلتها المتغيرة المتجددة، بدءا بسارس، وانتهاء بكورونا.
لم يقتصر تأثير الأوبئة على أفراد المجتمع فحسب، بل امتد تأثيرها إلى الحضارات، فكان للعديد منها تداعيات كبيرة على المجتمع البشري، بداية من قتل عدد كبير من السكان، وصولا إلى ظهور جيل جديد يفكر بشكل مختلف، ويطرح أسئلة عميقة عن كنه الحياة وماهية الوجود، فخرج من عباءتهم نظريات فلسفية جديدة غيرت التاريخ.
فقد ساهم تفشي طاعون جستنيان في القرن السادس الميلادي “541 – 750م” في توقف الأنشطة التجارية، وإضعاف الإمبراطورية البيزنطية، مما سمح للحضارات الأخرى باستعادة الأراضي البيزنطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأجزاء من آسيا، ومات فيه ما يقرب من 50 مليون شخص، أما الطاعون أو الموت الأسود الذي تفشى بين عامي 1347 و1351، فقد حصد حوالي 25 مليون إنسان، ولكن مما يقال أن مستوى معيشة الناجين ارتفع، فقد ساهم ذلك في خلق المزيد من فرص العمل، فانتعش الحراك الاجتماعي، ووقفت الحروب إلى حين.
أما “وباء الإنفلونزا” المعروف بالأنفلونزا الإسبانية، والذي تفشى عام 1918، وأصاب نحو 500 مليون شخص، تسبب في قتل أكثر من 50 مليونا على مستوى العالم.
كيف نواجهه؟
إن الناضر للكوكب من هذا المنظور، يرى الصورة قاتمة، وقد ثبت أن فيروس كورونا فيروس مخادع، ويصعب تتبعه، حيث لا تظهر أعراضه عند كثيرين، لكنه قاتل، وقد يؤدي لإرباك المستشفيات بزيادة عدد المصابين، السؤال الذي يطرح نفسه الآن: كيف يمكننا مواجهة مثل هذا الوباء، أو التقليل من عدد المصابين به؟
بالنظر للتجارب العالمية في مواجهة الأوبئة التي اجتاحت العالم، هناك عاملان مشتركان: عزل المصابين، وعزل المناطق التي يتفشى بها المرض.
والتاريخ يذكرنا بطاعون عمواس الذي حدث في خلافة عمر بن الخطاب، فقد حصد نحو 30 ألفاً من أهل الشام، بينهم عدد كبير من الصحابة، فما الطريقة التي تعامل بها عمر بن الخطاب مع الوباء؟ لقد امتنع عن دخول المدينة، وأمر بعدم دخولها وعدم خروج المصابين منها، وهو يعد من أول الطرق العملية لتطبيق أسلوب الحجر الصحي، وعزل المناطق الموبوءة منعاً لتفشي المرض.
أما على المستوى الشخصي، فتمثل معدات الوقاية الشخصية أهمية قصوى للحماية من العدوى، ولعلنا نجد في كل جائحة فرصة سانحة لنتعلم دروسا جديدة، والنظر للحياة بمنظور أكثر اتساعا.