هدى حجاجي أحمد
اللوحة: الفنان السعودي رياض خالد حمدون
التقينا مصادفة على قهوة الفيشاوي بعد عودتي من مؤتمر صحفي عقد في مدينة اسطنبول بتركيا.. كان يعمل معنا صحفي في نفس الجريدة التي أعمل بها، كان منطويا على نفسه، لا يتحدث كثيرا بقدر ما هو كاتب جيد وصاحب مبادئ ورأي حر..
جاد متزن، عملي جدا لأبعد مما تتخيل.
كان شاردا وليس كعادته، فترة صمت طويلة.. قطعها بقوله إن شاء الله موفقة في عملك الجديد.
قلت: الحمد لله، أفضل من ذي قبل.. وأنت؟.. سكت طويلا ثم قال: بخير تزوجت من ثلاثة أشهر.
قلت: حقا ألف مبروك.
كان يبدو تعيسا بالرغم من زواجه من الفتاة التي أحبها طويلا.
تحدث عن وحدته.. اندهشت.. وحدة.. أنت عريس جديد فكيف تتحدث عن الوحدة.. الكآبة؟
تنهد طويلا ثم بدأ يحكي..
الوحدة حتى في ليلة عرسه هل يصدق هذا الأمر؟ بعد الزفة والفرح وعشرات الوجوه والأغاني والرقصات.. تعود الوحدة تزحف إليه!
تفكير صائب اليست معه؟ وهي كل ما كان يتمنى.
الحبيبة صارت زوجة! تُرى هل نجح في اختيار شريكة من دنيا غامضة فأحس كأن شيطان أمضغه ليمونة فراح يبصق.. لماذا الامتعاض؟
خفقات القلب توقفت عند نغمات حزينة تذكر كلمة سيدة عجوز.. ترتب على ظهره، هيا اقتل نفسك من الفرحة! اعصرها ونم غالبا.. ردت عليها أخرى كالمومياء يا لها من ليلة!.. ناس كثيرون يتمنون شهر عسل.
هل يبدو عليه الفرح؟ لماذا تعصره الأحزان؟.. لماذا يموت غماً؟ فأخذ المرأة ليس الطريق المؤكد للسعادة!
راح يدور حول نفسه في شقة مزدحمة بالأثاث.. راحت العروس تضغط برفق على راحتيه وتقول مبتسمة:
بإذن الله سنكون أسعد زوجين.
أمسك بسترة المنامة (البيجامة) وقذف بها في أحد أركان الغرفة.
الحر شديد هذه الليلة يتقزز من رائحة العرق.
التقط بيديه المرتعشتين مجلة.. أي تصرف سخيف، ليس هذا من اللائق.. فزع من نفسه، نظر من النافذة يرنو إلى قطعة سوداء من السماء.. كانت النجوم ترتجف رعبا وقلقا!
هذه النجمة البعيدة أقرب إلى الأرض من قلبه إلى نفسه.. وكأن مطرقة ضخمة تهدده بالانسحاق. راح يتطلع إلى سقف الحجرة في قلق.. يريد أن يفقد وعيه بالنوم، ربما ينعشه حمام ماء بارد.. وسمع صوتها النسائي الجميل تدعوه للعشاء.. امرأة عملية حقا غيرت ملابسها.. ورتبت المائدة والزهور.. ولكن أين الشهية؟ حياة غريبة عليك سيغزوك الكسل حتما!
لابد أن يجاملها، يرى في الأفلام من يطعم زوجته.. أو تطعمه زوجته، لا يطيق هذا العبث.
لابد أن يغتصب ابتسامة، ألا يشفع لها كل ما تقدمه له من أسباب الراحة.. إنها تحرص على رضاه..
آكل شريحة من اللحم.. كميت يأكل ميتاً آخر.. وكأنما قذف في بطنه بطوربيد، تطالعه بوجهها الجميل، شعرها الأسود الفاحم.. تنظر إليه بعينين يشع منهما المرح.. لا يعرف لماذا؟
أنفها الجميل.. لكنه مجرد أنف أليس كذلك؟!
يتصنع الابتهاج مثلها.. ولكنها فعلا سعيدة مثل جائع وصل إلى أشهى طعامه.. أما هو: كمن يجلس على فوهة بركان، ضمهما الفراش.. كشيء حتمي في اللية الأولى.. جريئة تدغدغه بالقبلات الحارة اللزجة.. تبدو كعصفور انطلق من قفصه.. أزعجته مبادراتها!.. يديها تفتش عن الجوارح.. كأن الشقاء لا يبارح الموتى، والشيء الذي ينقر في قلبه يزيد من شوقه إلى عالم جديد!
ورغم أنها الليلة الأولى فكأنها الليلة المليون.. غريب هذا الإحساس بالزمن والمكان والفعل ورد الفعل.. سمعها، حبيبي الغالي.. كم انتظرتك.. فلا تكن ثقيلا، وصرخ صارخ في الفضاء فلا مجيب يجاملها وأنا ايضا.
شعرت بالبرودة في تصرفاته فقالت له: ألست على ما يرام؟ حدقت في عينيه بومة شرسة النظرات.. فهل قذفها بحجر؟
لا أنا بخير!
هل أعجبك العشاء.
ممتاز!
وتذكر يوما كان على حافة الموت يتفرس فيه الضياع راح يغلي.
ولكن الصفعة محفورة في وجهه يغمض عينيه.. العرق يغمره يتصبب على وجهه.. يهمس لصديقه.. صدقني لم أسرقها.. صدقني قد مت وتركتها.. والأحياء يتعاملون مع الأحياء.. أليس كذلك؟
يعود الصمت، ارتجف من حوار الموتى..
من قال له أنه لص؟!.. بل هو المسروق، إنه يحب مساحة ليست له.. قلبه كالبندول لا.. لا.. سيعيش كما يريد لن يخضع لسطوة الأوهام والموتى.. لماذا يستسلم لهذا الترجيع المر؟ اللعنة على كل شيء .. إن المرأة معي.. ملكي .. زوجتي وتحبني كما تقول.. لابد أن أحميها من الوساوس في رأسي والبغضاء والحقد والمرض.
تملكته رجفة قوية ورعدة، وحين عاد وجه الشاب إليه لكمه لكمة قوية أحدث ضجة أطارت بالمصباح الكهربائي.. نهضت العروس منزعجة، وجدته يعاني والدماء تنزف من راحته اليمني احتضنته في فزع.. وبكل رحمة وحب وإشفاق انحنت عليه تعالج جرحه، راح يبكي فأبكاها معه.. وبينما تضمد جراحه لطمها.. لا تلمسيني.. تراجعت: ماذا تقول:
وغمغم وعلى عينيه سحابة ضبابية: لا تفسير، فتح الباب وترك خلفه علامة استفهام.. تبعته زوجته المذعورة، راح يركض، وهوت المطرقة الضخمة.. صرخ.. اللعنة على كل شيء.. اللعنة.. ودفن بيديه الجريحة وجهه وراح يعوي ككلب مضروب.