أَلفٌ.. أرنب

أَلفٌ.. أرنب

د. محمد جابر لطفي

اللوحة: الفنانة العراقية مروة الحائك

أرهفت أذنى حتى أسمع زقزقة عصفور وحيد يقف مترددا خلف قضبان صدئة تزين حجرتي، مازلت أنصت إلى طقطقة الكرسى الخشبى العتيق الذى أجلس عليه، أنتظر مولد النور وأنا أراقب ساعات الليل الطويلة، وكل ساعة تمد يدها تصافح الأخرى، حتى  سمعت صرخة خافتة تتكرر كل صباح تذكرنى بميلاد الفجر الجديد.

هرعت إلى النافذة العالية، قفزت حتى أحيي أسوار المكان الذى لا أعرف له اسما، ها هي الأصوات التي تتردد خارج حجرتي.. كم مللت من سماعها.. هيا أخرجوا من أماكنكم.. اصطفوا هنا.. اذهبوا جميعا إلى الحمامات ونظفوا أنفسكم جيدا.. وإلا.. لا.. لا أريد أن أسمع ما تتعلق به “إلا”، تلك من الكلمات ذات الأشواك كانت كأنها حبات عقد تنفرط وتتساقط محدثة دوياً لا يطاق، أحنيت هامتي  للأوامر التي فقدت أذنيها ولا تسمع الشكوى، بل ولا تعيها.

تمر الأيام الجافة وأنا لا أعرف بدايتها من نهايتها.. هاهو طابور سخيف من زملائى الذين يقفون فى إنتظار وجبة من لوم وتأنيب.. أآخذ مكانى فى ذلك الصف ثم .. تتداخل الصور من حولي..  الجدران.. وأحذية المشرفين.. وصواني الطعام البارد.

 أجد نفسى أمسك بيد من كنت أدعوها أمى الحبيبة.. نعم كانت ذات شعر بني طويل، ممتلئة قليلا، ترتدى ملابس زاهية الألوان، كانت توقظني كل صباح بقبلة حانية، تمسح على رأسي، تهدهدني في فراشي وتغنى لي.. كم أشتاق إلى تلك الكلمات الراقصة التى تحفها الأنوار والفراشات، ثم هاهى تمد يدها فى رقة: انهض أيها الغالي.. انظر إلى الشباك، ها هي الأزهار أتت كي تقبل أخواتها على وجنتيك.. ثم تفتح لى الباب وتدعوني بلا صوت.

ها أنا قادم يا أمي.. هيا أيها الكسول المتراخي ..خذ صينية الطعام واذهب بعيدًا وكل.. أنتم جميعا لاهم لكم إلا ازدراد الطعام.. بل وليتكم تأكلون كما يأكل الناس..! تلوثون كل شيء بقذاراتكم وعبثكم.

كانت تلك الكلمات التي تكره الرحمة؛ معاول تهدم جدران جنتى الصغيرة، وتجذبنى مشدوه الأنفاس إلى ذلك المكان الذى لا إسم له.

 إمتثلت لما يقال لى وذهبت لأجلس على ذلك الكرسي ذي الأرجل الثلاثة وأنا أحاذر أن أسقط على الأرض، ثم مددت يدى إلى فمى أحشوه بما أستطيع، وأخذت أكرر ذلك  حتى ملت منى تلك الصينية الحمقاء.

 خذ يا حبيبي هذه البرتقالة من يدى، إنها جميلة وشهية. مددت يدى حتى آخذها من يد أمي، وفجأة سمعت صوتا ثقيلا له رنات لا توصف، كانت الصينية تقفز إلى الأرض وكانها لا تريد أن تعيش، وإذا بمن يقول: أنت مرة أخرى.. لا أرى إلا أن تعاقب هذه المرة، لن تتناول  اليوم الغداء ولا العشاء، وإن فكرت في الاعتراض؛  فسوف.. وسوف.. لم أسمع ما قالوه، وانكمشت داخل الجدران.

مددت عيني إلى أمي طالبا العون، لكنها كعادتها تلاشت كما ظهرت  فجأة بلا وداع، تجاذبتني الأيدي، أغمضت عينيّ وأسلمتهم جسدي كله، تمنيت ساعتها أن أجد نفسى على فراشي بين فراشاتي، وانأ ألتهم برتقالتي الحبيبة.. لكنى تعلمت أن غلق الجفون لا يذهب الشجون.

حان وقت ذهابي إلى الفصل الذى أحبه ولا أريده.. دخلت كعادتي متأخرا أتلمس الجدران حتى لا ترانى المدرسة العجوز، جلست على مقعدي الخشن، وبحثت عن كراستى التى تمتلئ باللون الأحمر، وكأن جروحى قد امتدت إليها تعانقها وتصبغها بآلام لا تغيب.

تراءى لى أرنبي الصغير الحبيب، وأمي تشير إليه وتقول: ألف.. أرنب، وأنا أردد وراءها: ألف…أرنب، نعم أرنبي اللطيف ذو الفراء الأبيض الناعم والعينين السوداوين، ثم تعالى صوت الشمطاء العجوز وهى تصرخ  يا.. يا.. ليس هذا هو حرف الألف بل هو الحاء، وهذا ليس بأرنب بل هو حمار مثلك ياأغبى من رأت عيناى.

فتحت جفوني  ونظرت إلى الصورة، وقد غادرها أرنبى الصغير فزعاً من صراخها، وجاء مكانه شيئا لا أعرفه، لكنه لا يشبهني، فلم تقول المدرسة أنه مثلى؟ و لكنى لم أجرؤ أن أسالها أبدا.

تتابعت الساعات والأيام  حتى جاء اليوم الموعود، كان زملائى يتقافزون ويصرخون فرحا: سوف نذهب إلى الملاهي.. سوف نذهب إلى الملاهي.. كانت مجرد كلمة غريبة على مسامعى مثلها مثل كلمات عجيبة أخرى أسمعها ولا أعرف لها معنى، كالبيتزا والكوكاتولا.. لكن كلمة الملاهي تلك، نبتت لها أيادي فجأة، أخذت تدق على أبواب مسامعي.. وتمزق أستار الحاضر ليبدو من وراءها من كنت أدعوه أبى.

 أراه بعيدا يحادث أمي ويشير إلى فى غضب، وهى تتوسل بعينيها ويديها، ثم رأيتها تقبل على وعيناها تدمعان، وهى ترسم بسمة جرداء على شفتيها وتهمهم قائلة: سوف نذهب ياحبيبي غدا إلى الملاهي، سألتها ماهي الملاهي ياأمي؟ قالت هي أرض تزورها الأفراح وتسكنها الضحكات، هناك سوف تلهو أنت وأرنبك الصغير، بل سوف  تقفز من السعادة، قلت لها وأنت يا أمي وأبى كذلك؟ قالت سوف نذهب جميعا إلى الملاهي.

لم أنم تلك الليلة، بل وأيقظت أرنبى الأبيض طوال الليل.. كنت أراه وجفونه تتساقط، وأنا أحادثه عن أرض الأحلام تلك، وأخيرا أشفقت عليه، وتركته يلتهم من النوم مايشاء، وجاء الصبح أخيرا، ركبنا سيارة أبى الصغيرة، أغمضت جفونى حتى أيقظتى أمى فى حنان وقالت: هنا الملاهي ياصغيري.. سوف نذهب أنا وأبوك لنشتري لك البيتزا والكوكاتولا.. وذهبت.. انتظرت حضورها وهى تحمل ماقالت، انتظرت طويلا.. لكنها لم تأت أبدا.

أيقظنى صوت المدرّسة ذات الصوت العالى والوجه الكالح: هيا .. هيا، كلكم جميعا  وأنت بالذات، لا أريد اليوم أن أعاقبك من جديد.. هيا.

خرجت مع زملائي الصغار في صف واحد تقودنا تلك العجوز، كانت هذه أول مرة نخرج من ذلك البيت الكبير ذى الأسوار الحديدية، ثم ركبنا عربة كبيرة اسمها التوتوبيس، ومن خلال النافذة، رأيت لوحة كبيرة فوق ذلك البيت مكتوب عليها دار الرحمة.. لضعاف  العقول. 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s