عماد أبو غازي
اللوحة: الفنان السوري بديع جحجاح
عرفه أجدادُنا في مصر وبلاد الشرق في الفترة ما بين عامي 1809 و1817باسم الشيخ إبراهيم بن عبد الله، عاش بينهم وتجول بين ربوع سورية ولبنان والأردن وفلسطين، استقر في مصر ومنها انطلق إلى الجنوب ووصل إلى النوبة وشمال وشرق السودان وزار بلاد الحجاز ثم عاد إلى مصر وتوفي بها قبل أن يكمل عامه الثالث والثلاثين.
إنه يوهان لودفيج بوركهارت والمعروف كذلك باسم جون لويس بوركهارت الشاب السويسري الذي ولد في مدينة لوزان في 25 نوفمبر من عام 1784، وأمضى طفولته في مدينة بازل في منزل أسرته الذي تحول الآن إلى متحف.
تلقى الصبي الصغير تعليمه الأولي مع أخواته على أيدي مدرسين خصوصيين بمنزل أسرته ببازل، وفي سن السادسة عشرة سافر ليدرس القانون والفلسفة والتاريخ في مدينتي لايبزيج وجوتيجن بألمانيا حاليا، وقضى هناك خمس سنوات بين عامي 1800 و1805، كانت عائلته تعده للعمل في المحاماة أو الدبلوماسية أو التجارة، لكن الأقدار كانت تخبئ له مسارا آخر.
عندما عاد الشاب يوهان لودفيج بوركهارت وهو في الحادية والعشرين من عمره إلى بازل لم يجد عملا بسهولة، فسافر بعد فترة إلى لندن بحثا عن عمل هناك، لكنه لم يوفق رغم ما كان يحمله من شهادات دراسية ورسائل توصية، وبعد عامين من المعاناة حصل الشاب على أول وظيفة له في لندن.
وهنا لعبت المصادفة دورا كبيرا في تغيير مسار حياته، وفي دفعه إلى علاقة بعالم جديد لم يفكر في اقتحامه من قبل، أفريقيا والشرق، التقى بوركهارت بالسير جوزيف بانكس رئيس الجمعية الأفريقية، أو “جمعية تشجيع اكتشاف المناطق الداخلية من أفريقيا” التي تأسست عام 1788 في لندن، فحتى ذلك الحين لم يكن لدى الأوروبيين معرفة دقيقة بالأجزاء الداخلية من القارة الأفريقية، وكانت معرفتهم قاصرة على المناطق الساحلية وقليل من الأجزاء الداخلية من بعض البلدان مثل مصر، وقام السير بانكس بإلحاق بوركهارت بالجمعية وكلفه بالسفر إلى وسط وغرب أفريقيا، إلى حوض النيجر عبر مصر، وعند هذه النقطة تحولت حياة بوركهارت تماما.
كانت الرحلة تحتاج إلى إعداد خاص للتمكن من تحقيق أهدافها، فقامت الجمعية الأفريقية بإرسال بوركهارت إلى جامعة كمبردج لتعلم اللغة العربية، ودراسة الكمياء والفلك وعلم الفلزات والطب.
وفي شهر فبراير من عام 1809 بدأ بوركهارت ـ ولم يكن قد بلغ الخامسة والعشرين بعد ـ الرحلة إلى الشرق، أبحر متجها إلى مالطا، ومنها إلى مدينة حلب السورية التي وصلها في شهر يوليو، وقضى هناك ثلاث سنوات لمزيد من تعلم اللغة العربية والتعرف على الثقافة المحلية في منطقة المشرق العربي، وأثناء إقامته في حلب أطلق بوركهارت لحيته على الطريقة الشرقية وأرتدى ملابس عربية وسمى نفسه الشيخ إبراهيم بن عبد الله، ثم أعلن اعتناقه الإسلام واتجه إلى دراسة القرآن.
وخلال إقامته بحلب قام بوركهارت بالترحال في المناطق المحيطة بها، فتجول بين عدد من المدن السورية كما توجه إلى شمال العراق، وزار المناطق الأثرية في تدمر في سوريا وبعلبك في لبنان، وفي يونيو من عام 1912 توجه إلى مصر ليبدأ في تنفيذ مهمته الأفريقية.
وفي طريقه إلى مصر مرورا بفلسطين وشرق نهر الأردن مر بأطلال مدينة البتراء (بترا) وكتب عنها: “صرفت فترة 15 يوما في الصحراء ما بين البحر الميت والبحر الأحمر.. وفي وسط المسافة بين البحرين تقوم آثار مدينة مهيبة تقع في وادي موسى، ويُحتمل أن تكون البتراء، فيها نشاهد مدافن ذات زخرفة منحوتة في الصخر، وبقايا معابد وقصور ومدرجات وقنوات مياه وغيرها من الغرائب والروائع النادرة التي تجعل هذه المدينة أكثر إثارة للاهتمام من أي شيء أخر شاهدته في حياتي”.
وفي سبتمبر 1812 وصل الشيخ إبراهيم إلى القاهرة لينتقل منها إلى قلب أفريقيا مع قافلة فزان، ولكن تأخر موعد القافلة وحبه للاكتشاف دفعه لاستثمار الوقت في رحلة خطط لها أن تكون قصيرة في صعيد مصر، لكنها طالت أكثر مما توقع بكثير، وقادته إلى عوالم جديدة.
لقد كانت رحلة بوركهارت إلى المنطقة مواكبة للحظة مهمة في تاريخها، لنقطة تحول محورية، كانت المنطقة بكاملها تخضع للحكم العثماني لقرابة ثلاثة قرون عندما احتل السلطان العثماني سليم الأول العراق ثم بلاد الشام ومصر والحجاز في العقد الثاني من القرن السادس عشر، ثم امتدت الدولة العثمانية في شمال أفريقيا حتى وصلت إلى حدود مراكش قبل منتصف القرن نفسه، لكن الفترة التي زار فيها بوركهارت المنطقة كانت تشهد تحولات سياسية وثقافية واجتماعية مهمة، فـ “السلام العثماني” الذي ساد لثلاثة قرون كان قد بدأ يتزعزع، والنزعات الاستقلالية عن دولة “الخلافة” تتوالى وكان من أكبرها وأهمها حركة علي بك الكبير في مصر وحركة ضاهر العُمَر في فلسطين، لكن الحركة الأخطر كانت الدعوة الوهابية التي هددت سيطرة السلطان العثماني على الأماكن الإسلامية المقدسة في الحجاز، والتي حملت أفكارا دينية متشددة، كما عرفت تلك الفترة مرحلة جديدة من مراحل الاحتكاك العنيف بالغرب الأوروبي بدأت مع الحملة الفرنسية على مصر والشام (1798 ـ 1801) ثم الحملة البريطانية على مصر (حملة فريزر) 1807، كان الاحتكاك بالغرب في تلك المرة مختلفا عن مرحلة الحروب الصليبية التي كان الطرفان فيها ـ الشرق والغرب ـ متكافئين حضاريا، أو على الأقل متقاربان، فمع نهاية القرن الثامن عشر كان الغرب قد أنجز نهضته وحقق طفرة حضارية، بينما الشرق الخاضع للدولة العثمانية الغارق في تخلفه وجموده الذي تسببت فيه تلك الدولة يبدأ بالكاد في التحرك من ثباته.
وفي مصر كان محمد علي باشا الحاكم الذي فرضه الشعب على السلطان العثماني في ثورة كبيرة سنة 1805 يثبت أركان حكمه ويتخلص من منافسيه في الداخل، ويستحوذ على سلطات أكبر مقابل الخدمات التي يؤديها للسلطان في قمع الحركة الوهابية في الحجاز ونجد، كان محمد علي باشا يستعد لتغيير وجه الحياة في مصر، الولاية المحورية بين ولايات الدولة العثمانية في الشرق، في تلك اللحظة التاريخية الفارقة جاءت رحلة بوركهارت للمنطقة.
نعود إلى بوركهارت أو الشيخ إبراهيم الذي غادر القاهرة في خريف سنة 1812 إلى أسنا في صعيد مصر ومنها توجه جنوبا إلى بلاد النوبة، حيث سجل ملاحظاته حول عادات أهل النوبة وشمال شرق السودان وعن عادات البدو في المناطق الصحراوية، كما شاهد آثار جنوب مصر وبلاد النوبة، ودون مشاهدته للأجزاء الظاهرة من أحد معبدي أبو سمبل المطمور تحت الرمال، وكان ذلك قبل اكتشاف بلزوني الإيطالي للمعبد بأكثر من ثلاثين عاما، وإن كان اهتمامه الأكبر في تلك الرحلة قد انصب على دراسة المراكز التجارية وطرق التجارة.
وفي صيف عام 1814 عبر بوركهارت البحر الأحمر من سواكن إلى جدة ومنها إلى مكة والمدينة حيث مكث هناك ثلاثة أشهر أدى خلالها فريضة الحج. ونظرا لمرضه لم يبدأ رحلة العودة إلى القاهرة إلا منتصف سنة 1815، ومن هناك قام برحلة سريعة إلى سيناء ثم عاد ليستقر بالقاهرة إلى أن مات بعد إصابته بتسمم غذائي في 15 أكتوبر سنة 1817 ودفن جثمانه بمدافن باب النصر بالقاهرة.
وقد اقتنى بوركهارت خلال رحلته بالشرق عشرات المخطوطات العربية النادرة، كما خلفت رحلاته عددا من المؤلفات المهمة:
ترجمة لروبنسن كروز إلى العربية – رحلة إلى النوبة وبلاد السودان – رحلة في سورية والأراضي المقدسة – رحلة في الجزيرة العربية – ملاحظات على البدو والوهابيين – أمثال عربية.
وقد ترجمت كل أعماله إلى العربية بدءً من خمسينيات القرن الماضي، وشكلت مصدرا مهما لدراسة تاريخ الشرق في تلك المرحلة، كما قدم لنا بوركهارت معرفة تاريخية جديدة عن مصر والعوالم المحيطة بها من خلال رؤية عين فاحصة مدققة.