البريء

البريء

د. محمد جابر لطفي

اللوحة: الفنان الألماني كاسبار ديفيد فريدريش

نور خافت يتراقص على جدران ينضح منها الماء.. قطرات تطل برأسها كوليد يرنو إلى عالم جديد.. أدفع بابا خشبيا مهترئا حتى أسمع صريره الملتاع كصرخات وحش سجين.. درجات سلم تناديني لأعتليها كي تهدأ وتستكين.. لم أستطع أن أتمالك نفسي من الابتسام وتلك السلالم الخرقاء تظن أنى سوف أحيلها إلى سبائك من ذهب.. أغمضت عيني وتمتمت شفاهي بحروف شوهاء.. لملمت ثيابي وأنا أضحك في شماتة.. ولم أنتظر طويلا حتى تناهت إلى مسامعي صرخات كنت أتوق إليها.. إذ كانت درجات السلم تكابد سكرات موت اليم.. ولا عجب فقد أهديتها طلسما يحمل عذابات لا توصف.. وأكملت المسير.. لأدلف في سرداب ثعباني المسير.. أشرت بإصبعي إلى فتحات تنام داخل جدران ذلك الممر المتعرج فأحنت رؤوسها في ذلة لمقدم اللهيب الذي ينبع من بين أظافري.. هدأت نفسي وأنا أرى تراقص الجحيم الذي كان يملأ عالمي الصخري.. لم يتبق لقدمي سوى خطوات معدودة حتى أصل إلى حجرتي الخفية تلك التي تحوي سر الأسرار.. أشتاق دوما أن أعانق عرائس الموت التي كانت تتلقاني دوما في لهفة وفزع لكنها تخشى ما أحمله من ضحكات ذات أنياب تقطر سما زعافا ولا ألومهن على ذلك.. لكن لابد مما ليس منه بد، أرفع ذراعي وأشير بأطراف أصابعي فلا يملكن إلا أن يلملمن ثيابهن الشبحية ويطأطأن رؤوسهن فى انتظار قبلات الردى الممزوجة ببسمات من لهيب، وأخيرا لم يعد لى سوى أن أدع جسدي الأزرق يغوص فى مقعدي الحجري الحبيب.. أرحت ذراعى فى جوف الصخر وأغمضت جفونى، وأخذت أتمتم بما أهوى.. ولم أنتظر طويلا حتى تهادى إلى سمعى أصداء كنت أرقبها فى لهفة وشوق.. كان العالم الخفى يبعث إلي بمن يرفل فى الظلمات.. إنفرجت شفاهى عن إبتسامة كسيحة عندما ظهرت فى أفق الذكرى أول مرة سمعت فيها أنات العالم المجهول، ورأيت موكب الأشباح القادمة من العدم.. كم كنت غريرا وأنا أرتعش فى لهفة كطفل يريد أن يلهو.. لكن زمان الأفراح قد ولى ولم يترك إلا شهوة الانتقام التى كانت تضئ سماء حياتى ولم تزل.. ثم حانت الساعة التى كنت أعشقها وأمقتها.. لحظات تحوى نسائم قديمة وعذابات لا توصف.. سائلت نفسى مرات عديدة تقارب عدد نجوم السماء المتهاوية وذنوب كل العوالم السفلية التى كانت تخشانى.. متى سوف أمسك بجثة ذلك الماضى السعيد حتى أهوى به فى بئر الأقدار التى تحيا على ما تبقى من لحمى وعظامى وآمالى العمياء.. لكنى فى النهاية قبلت بما لا يرضى به مثلى.

وأخيرا أشرت إلى جوف الماضى السحيق حتى يرسل لى أيامي الأسيرة التى أتت تتهادى فى أسمال ممزقة وليس لها ما يسترها من ضحكات الأقدار إلا ذلك الرضا العجيب، الذى كان يتيه فى صفاء بلا إثم.

كان كل ما حولى يتبدل فى سكون.. تلال خضراء تبدو وكأنها رسوم لطفل يحبو، أراها وهى تغمر صخور الكهف المسحور الذى أقبع فيه وحيدا منذ أزمان عديدة.. سماء زرقاء حانية تصبغ الظلمات التى كانت تلهو بلا رقيب بضياء حزين.. زقزقة طيور تحلم بمولد فجر جديد.. طفل يعدو يسابق فراشات تسبح فى ضياء يتماوج فى بهاء.. هناك بعيدا.. كانت تقبع عينان ترقبان ذلك الوجود الحالم، وتملأ تجاويف الأيام.. أراه وهو ينظر إلى فى لهفة وترقب.. كنت ذلك الطفل الذي كان مسطورا فى كتابات الأقدمين.. كان ينتظر مقدمى إلى تلك الجنة الخفية.. كان يرانى كل يوم وأنا ألهو بأقدارى التى لا تنام.. ثم.. تبدت لى أذنان صغيرتان بيضاوتان.. اهتزتا فى براءة.. كانت لأرنب صغير ناصع البياض ينظر إلى بعينيه الحمراوين فى تلهف وشوق.. إقترب منى قفز إلى فى وداعة تلقفته يداى، ضممته إلى صدرى.. وأمطرته قبلات لها رنين.. وليتنى مافعلت.. لا أذكر إلا صيحات تتعالى من وراء الأفق.. ضربات برق تتابع.. ينتهك السكون.. كرات من لهيب تتراقص وأرنبى ذو وداعة الأطفال يتبدل سريعا.. فراءه الأبيض يتحول إلى حراشف زرقاء.. عيناه الوادعتان قد اختفيتا ونبت فى مكانهما نوافذ من جحيم تقذف بالآلام.. ثم.. امتدت أظافر من نار لتلتهم ماكنت أدعوه دمى ولحمى وعظامى.. ثم.. تاه كل ما حولى فى غيابات جحيم لا تنقطع، لا أدرى هل مرت شموس وأقمار أم لعلها تجول مثلى فى ظلام العالم السفلى.. سياط من لهيب تختال فى تيه ولهفه تنزع الحب والأمل من مهجتى.. كنت أراه وهو يرقبنى بعينه العوراء ويتبسم فى رضا.. لا أذكر كم ناديته وأنا يحدونى الأمل، أمد إليه أطرافى جميعا عله يوقف مواكب العذابات تلك التى كانت تتوالى فى بهجة وإشفاق.. حتى نبت فى قلبى الكسير نداءا يلعن كل حى.. يصرخ بنشيد الخراب، عندها توقف كل شئ.. هدأت صيحات الظلام وتلاشت سياط الألم.. وتبسم هو فى توحش غريب.

 أمرنى بالقدوم وقد فعلت صاغرا، لم أملك إلا أن أ تبعه.. أشار إلى ثلاثة أحجار نائمة فإذا بها تنتفض وتهب واقفة وترسم باباً مثلث الشكل يكسوه الضياء.. أمسك بكلتا يدى ودلفنا معا إلى ما وراء الظلال.

وجدتنى أسبح فى عتامات ليس لها لون تتماوج فى حقد بالغ تتساءل عن ذلك الطفل الذى يخترق أستار اللعنات، أشرت إليها جميعا وتمتمت بما لا أفهم فإذا بها جميعا تتصارخ فى فزع، كنت أصب عليها صنوفا من عذابات لا ترحم.. امتلأت نفسى بسعار عارم يريد أن يستنزل لعنات الدمار.. لكنه أشار إلى وقال ليس الآن.. لملمت رياح النار التى كانت تهب من كل مكان وآثرت الابتسام.

رأيته يقف فى محراب من حجر يدعونى لأقف بجواره، فعلتها وكلي شوق فى أن أنتزع أنفاسه من بين جوانحه.. تبسم بدون أن يلتفت إلي وقال لا ليس الآن.. أشار إلى رسوم أعرفها كما لو كانت قد خطت فى كفى منذ القدم.. أمرني بأن أتلوها وقد فعلت متلذذا.. ساعتها أدركت أن بمقدوري أن أزهق أرواحا وأخمد أنفاسا بل وأجلب نهايات أعمار.

أشار إلى بأن أتقدم فعلت وكلي شوق.. قدم لى كتابا مهترءا قد كسي بغطاء جلدي كوجه مسن يحفل بتجاعيد حالكة السواد.. نزع من فوق كتفيه رداءه المزركش بوجوه الشياطين.. ألبسنى إياه، نظر إلى فى وداعة لا أطيقها وقال: لقد برأت أنا من أدران الأيام، سوف أذهب لأجلس على عرش الظلمات وأدعك تلهو بعذابات الأرواح إلى أن تمل من لعبة القدر الدامية، هنا وهنا فقط سوف تصبح أرنبا مستكينا.. ثم ذاب وتبخر كما ينجلي ضباب البحر، ولم يتبق سواي.. ألهو.. وألهو.. حتى رأيته يقبل من بعيد.. طفلا أسمر اللون يشدو بالأفراح.. وبلا إنذار مددت يدي ذات الفراء وبدت أذناي كفراشة حمقاء ونظرت بعيني الحمراوين اليه فى براءة، ضحك بسعادة.. مد إليّ كفيه الصغيرتين وقفزت وأنا أصرخ بلا صوت ليجدنى فى أحضانه، ووجهى ذو الحراشف يحفل بابتسامات من يحمل القدر البريء.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s