د. محمد جابر لطفي
اللوحة: الفنانة المغربية لطيفة العلوي
طلعت الشمس من جديد وأنارت الغرفة بطلاء ذهبى لماع، فتحت جفونى المتثاقلة فأصدرت صوتا شبيها بالأبواب الصدئة، وإنتظرت أن يدق جرس المنبه الذى وضعته بجانبى وطال إنتظارى، فقررت أن أترك سريرى لأرى ماذا حل بذلك المسكين الذى يبذل كل مالديه حتى يوقظنى كل صباح.
كان يوما صيفيا كباقى أيام الصيف، لابد وأنها الساعة السادسة صباحا أوقبلها بقليل، نظرت الى المنبه فلم أجده أين ذهب ذلك البائس؟ ربما سقط من مكانه أو ربما أكون قد إستيقظت من قبل وألقيت به تحت السرير.
تجولت ببصرى هنا وهناك وحتى تحت سريرى فلم أجد له أثرا، نهضت لأنفض ماعلق بى من بقايا نعاس، نظرت الى المرآة وراعنى مارأيت! وجدت شبحا يرد إليّ النظرة فتساءلت فى تعجب من هذا الذى يقف أمامى فى المرآة؟. كان شاحبا هزيلا به صلع واضح، شاربه وذقنه قد كبرا وكأنهما اعشابا لم تنلهما يد التهذيب منذ زمن. ضحكت فى صمت، ربما خوفا وتساءلت؛ حتى الاشباح تعانى من الكبر والاهمال!. فركت جفونى حتى تذهب صورته من المرآة ومن مخيلتى كنت على يقين أن هذا مجرد تصورات وأوهام أو ربما يقايا منام.
فتحت عيونى أبحث عن صورتى فى المرآة ولكنى وجدت ذلك الشبح لازال يرنو إلي فى إصرار غريب لايخلو من تحد، ويقلب وجهه كأنه يبحث عن شئ ضائع.
لم أتمالك نفسى وأخذت أصرخ طالبا العون ولا مجيب، بعد لحظات دخل الغرفة رجل غريب ضخم يرتدى زيا أبيض اللون وقال فى صلف وكبر: لم تصرخ ماذا حدث اليوم ايضا؟ إنعقد لسانى! من يكون هذا الرجل؟ ولم يخاطبنى بلهجة من يعرفنى جيدا؟
تقدم ذلك الرجل وأمسك بى بقوة وحملني كأن لا وزن لي ووضعنى في السرير ونظر إلي بتحد: إغمض جفونك حاول أن تنام، مازلنا فى منتصف النهار ولم يحن موعد دواءك بعد. أنام! منتصف النهار! الدواء! لم أفهم ماقاله، حاولت أن أقاوم وأسأله فلم أستطع وكأن لسانى أصبح مقيدا بألف قيد وقيد، ثم ذاب كل ماحولى، المرآة والسرير والشبح والرجل والدواء وكل شئ.
هزنى صوت مجلجل وصفير مزعج، نهضت من الكرسى الخشبى وبحثت عن نظارتى لأرى ماذا يحدث فى الخارج، لم أجد نظارتى فى المكان المعتاد، ماذا حدث لغرفتى أين المكتبة والكتب والسجادة الثمينة التى إشتريتها خصيصا لتلك الحجرة التى أقضى فيها معظم وقتي؟.
لايوجد من تلك الأشياء الا مجرد ذكريات باهتة فى مخيلتى، تحسست وجهى لأجد نظارة بلاستيكية رخيصة قبيحة بها كسر قديم لم يتم إصلاحه فربطت بخيط لالون له. جدران الحجرة متهالكة وتوجد فى الاعلى نافذة صغيرة عليها قضبان، دعاني الفضول لأقف على أطراف اقدامي وأمد بصري من خلال فتحاتها الضيقة حتى تمكنت من رؤية شجيرات غير مهذبة، وسور كبير عال ومن وراءه يعلو صوت قطار.
أمسكت بقضبان النافذة وأخذت أدق برأسي على الجدران لكي افهم أي شئ. ثم تآكلت القضبان بين يدي وتأرجحت الجدران جيئة وذهابا، حتى أرضية الغرفة القذرة تداخل حدود البلاط فى الاسفل حتى تلاشى، ووجدت نفسى أسقط داخل بئر سوداء لاقرار لها، وأنا مازلت أمسك بقضبان النافذة حتى إستحالت رمالا في كفي تناثرت حباتها ووجدتني أقفز الى المجهول.
ربتت على كفي أصابع صغيرة حلوة، فتحت عيناي لأجد طفلا صغبرا ذهبي الشعر يضحك فى براءة ويقول: إحملنى ياجدى إحملنى.. تلفت من حولى حتى أرى ذلك الجد المزعوم فلم أر شيئا، والطفل يصرخ في تحد واصرار إحملني ياجدي فحملته على مضض.
أخذ يلهو بوجهي ورأسي تململت من هذا العبء، وحاولت أن أنزله ألى الأرض فتشبث بوجهي ونظارتي وألقاها بعيدا، سقطت على الأرض وتكسرت الى أشلاء، صرخت من الغيظ وألقيت به جانبا وأنا أكاد انفجر، ثم سمعت من يقول ماذا فعلت يا أبي، أهذا هو جزاء رعايتنا إياك سنينا، وأسرعت أمرأة لم أرها من قبل إلى صاحب ذلك الصوت وقالت لن أمكث دقيقة واحدة فى بيت المجانين هذا حتى يذهب منه ذلك المخرف، وحملت الطفل وهي يبكي وأغلقت الباب في عنف، واقترب منى رجل لا أعرفه ومد يده فى حنان الى رأسي، وربت على كتفي وقال لا فائدة يا أبي لا فائدة، لقد حاولت لسنين أن أحتمل لكن بيتي وحياتي عندي فى المقام الأول! حاولت أن أصدر صوتا لكي أساله إلى من يتوجه بهذا الكلام، هل كل من حولي يتشاركون حياتهم مع الاشباح والاوهام؟ لكن صوتي إلتوي الى الداخل ورأيت يديه وهي تبتعد وكأن جسده قد أمسك به مجهول يشده إلى وراء. صغر حتى إختفى، وكذلك فعلت الجدران والأرض والسقف، كأن وحشا قام بامتصاص ما حولى الى آخر قطرة ليظلم الكون، ثم يبرق بألف ضوء.
حاولت أن أحرك يدي أو قدمي ببطء وهدوء، ثم بشدة وانفعال، ولا أدرى ما الذى يمنعنى من القيام، حتى تهادى إلى سمعي من يقول لا تنزعجوا، إنها مجرد حالة الزهايمر عادية.
الضياع حاله داخليه انفصال المحسوس عن المدرك وليست قاصرة على الراوى بل هى شائعة فى اجواء القصة و كلمة تدور على السنة وحال الابطال الثانويبن فيها عندما يفقد الانسان القدرة عل التعرف على ذاته وماذا يريد منه العالم الذى بحوطه حينها لايتبقى الا الهرب الى ضياع اكبر واعمق واعمق
إعجابLiked by 1 person
الضياع هو اقل مايمكن ان يقال عندما يفقد المرء ماببنه ومابين نفسه من صله من انا لم انا اين انا ثم تتداعى الاسئلة …… و اذا بمن حول البطل فى ضباع اشد منه رثيت لحالهم قبل حاله
المؤلف
إعجابإعجاب