عبدالرقيب الوصابي
اللوحة: الفنان العراقي جميل حمودي
يقول البردوني في قصيدته “الطواف” وهي بالمناسبة من القصائد التي لم تنشر إلا عبر تسريبات صفحات الملحق الثقافي التابعة لصحيفة الثورة.
يقول البردوني:
نَمَا إلى (الشَّيْخِ) أَنِّي شَاعِرٌ.. فَدَعَا
“أمَانةَ الحِفظِ” تُعْطِيهِ دَوَاوِينِي
وقَالَ مَن ظَنَّنِي: هَل هَاتَفَتْكَ “مُنَى”؟
مَنَّتْ كَثِيرَاً وأرْجُو أنْ تُمَنِّينِي
وقالَ لِي صَحَفِيٌّ: هَل نَزِفُّ إلَى
(شَيخِ المَعَالِي) أتَمَّ الخُرَّدِ العِينِ
وأمَّنَت زَوْجَةُ المِذيَاع ضَاحِكَةً
وقَالَ مَن قَالَ: لَو قَصَّرْتُ يُقصِينِي
فَقُلْتُ: يَأْبَى هِجَائِي أنْ يَسِفَّ إلى
عِمَامَةٍ تَحتَهَا الشَّيخُ “ابن شَعْنُونِ”
إليَّ أهْدَى قَمِيصَاً لُبْسَ أرْبَعَةٍ
لِكَي أرَى كَيفَ لَمْ يَبْخَل بتَكْفِينِي
يا شَيخُ شَارَكْتُ “عِزْرَائيلَ” شَمْلَتَهُ
تِسعِينَ شَهرَاً، أُصَافِيهِ.. يُصَافِينِي
قَالَ الفَتَى أيْنَعَتْ عِشرُونَ مِن عُمُرِي
هُنَا، ومَا لاحَ لِي مَا أنتَ تُنْبِينِي
الأبيات السابقة تشير بذكاء إلى شيخ متنفذ نما إلى سمعه أن الشاعر عبدالله البردوني هجاه أو ربما أسقط القناع عن وجهه ليكشف القبح المخبوء تحت عمامته وأن هذا الشيخ – بدوره – أرسل من يداهم منزل البردوني..
وهنا أود التأكيد على أن قصائد كثيرة للشاعر البردوني تفصح عن مداهمة منزل الشاعر أكثر من مرة، ففي قصيدة “لص في منزل شاعر” نجد الشاعر يقابل فعل السطو ومحاولة اللصوص بالسخرية والتندر. غير أنه في المداهمات الليلية اللاحقة لمنزله أدرك جيدا الرسالة والتهديد المبطن وراء تكرار هذه المداهمات، ليقول في قصيدته “بيت من الريح” وهي بالمناسبة من القصائد التي لم تنشر بعد إلا عبر صفحات الملحق الثقافي:
قُل لِمَن أَرسَلَكَ اللَّيلَ: استَرِح
فالذي تَخشاهُ لَن يَحتَلَّ صَرحَك..
ولعل هذا الوعي القرائي يؤكد بما لا يدع مجالا للشك اختفاء ديوان ثالث للشاعر المعجزة عبدالله البردوني كان قد تحدث عنه وأشار إليه في أكثر من لقاء وموضع وهذا الديوان الشعري بعنوان “أبطال.. ما بعد منتصف الليل”.
والسؤال الذي يضع – بإصرار – نفسه هاهنا:
ترى من هذا الشيخ المتنفذ الذي ذكره البردوني ولمزه بقوله “بن شعنون”؟ وما علاقته باختفاء بعض كتب البردوني؟ وهل انهيار منزل الشاعر عبدالله البردوني – مؤخرا – فعلا بريئا أم ان هنالك العديد من الاحتمالات الآثمة بحق الشاعر وموروثه الفكري والشعري؟
ويقول الشاعر عبدالله البردوني في آخر قصيدة “رحلة ابن شاب قرناها” التي لم تنشر بعد إلا من خلال صفحات الملحق الثقافي:
قال: ماذا حملتَ؟ قلتُ: كتاباً
وتأبَّطتُ صُرَّةً لاقتياتي
ثم ماذا؟ أسْكنتُ (ميمون) نصفي
قل ونصفي لمن؟ لتلك الحصاةِ
البيتان الشعريان السابقان يشيران بذكاء إلى جهة معينة دفع إليها البردوني بروايته “حكايات العم ميمون” بقصد الطباعة وتقاضى حقا فكريا “صرة” حسب لغة البردوني في القصيدة..
هذه الجهة لم تلتزم أدبيا ولا أخلاقيا بطباعة العمل الروائي ربما للمكاشفات والحقائق التي يوردها الخطاب الروائي خاصة فيما يتعلق الأجواء والدلائل المصاحبة لاغتيال الرئيس السابق إبراهيم الحمدي وتمادت هذه الجهة الرسمية مستفيدة من موت أسطورة الأدب العربي عبدالله البردوني رحمه الله..
السؤال: هل بمقدورنا الاهتداء إلى هذه الجهة والضغط عليها بكل الوسائل لإصدار هذا العمل الروائي أو تسليمه لجهة تتكفل بطباعته؟
وللتوضيح أكثر أقول فيما يتعلق بموروث الشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني الشعري والنثري: تكمن الإشكالية فيما يتعلق بتراث البردوني الفكري والشعري العالق بعد وفاته والمتعثر عن الطباعة، في موقف الورثة اللا واعي ومحاولاتهم الاستحواذ وفرض الوصاية أو المحاصصة لما تبقى من دواوينه الشعرية، وكتبه النثرية غير المطبوعة، (العشق على مرافئ القمر – رحلة ابن من شاب قرناها وغيرها من الكتب النثرية) غير مكترثين بمسألة أن يكون البردوني حقا متاحا للإنسانية كلها.
بالنسبة للديوانين الشعريين العالقين للشاعر عبدالله البردوني: “العشق في مرافئ القمر” و“رحلة ابن من شاب قرناها”، متوافرة ضمن دائرة علاقات ضيقة لا تتجاوز ورثة الشاعر، بالإضافة للشاعرين الأستاذ محمد القعود والشاعر الصديق كمال البرتاني.
بالنسبة للحديث عن رواية “العم ميمون” هي ذاتها السيرة الذاتية التي تحدث عنها الشاعر في أكثر من موضع، وعند اشتغالنا بتجهيزات مهرجان المبصر تواصل بي مثقف عربي اثق به وأخبرني أن البردوني دفع بالرواية إلى دار عربية للنشر قبل موته بثمانية اشهر والدار أفلست وأغلقت أبوابها ولم تطبع الرواية وكذلك لم يتم متابعة الدار. أومن كانوا قائمين عليها لاسترجاع مخطوط الرواية.
الكارثة تكمن في مصير الثلاثة الكتب الأخرى وهي كتب فكرية ونقدية وهي “شاعرية الزمان والمكان في الشعر العربي” وهذا كتاب خطير للغاية يدرس فيه البردوني الزمان والمكان من خلال الشعر غير معتمد على التاريخ لأن التاريخ يكتبه المنتصر وتقدم الأحداث فيه على التحوير والتزييف للحقائق، أما عن الكتاب الآخر فهو “الجديد والمتجدد في الأدب اليمني” ويقع في 1800 صفحة وهو من أهم الكتب التي انجزها البردوني وعمل على إعادة صياغتها أكثر من مرة.
ومصير الكتابين:
1_ “شاعرية الزمان والمكان في الشعر العربي”
2_ “الجديد والمتجدد في الأدب اليمني” سارعت أيادي الرقيب السياسي العابثة إلى مصادرتهما وإخفائهما اثناء الانشغال بالتجهيزات لمراسم التشييع والعزاء في شاعر اليمن الكبير عبدالله البردوني..
أما بالنسبة لكتاب “الجمهورية اليمنية” وهو بالمناسبة الكتاب ذاته الذي يشير إليه بعض المثقفين باسم آخر “اليمن الوحدوي” فأكاد أجزم أن الشاعر والمفكر عبدالله البردوني قد قام بتعديل اسم الكتاب من “اليمن الوحدوي” إلى “الجمهورية اليمنية” تأكيدا للمواقف الصرامة التي تبناها الشاعر ضد الأخطاء السياسية المصاحبة لتحقيق مشروع الوحدة والاستشراف المبكر للمستقبل المشوه الناجم عن تراكم تلك الأخطاء الكارثية..
وأجدني هنا أضم صوتي إلى صوت القائلين بطباعة هذا الكتاب، واحتجازه في مخازن وزارة الثقافة استجابة لإملاءات ومواقف عدائية مشابهة للمواقف التي أدت إلى سحب كتاب البردوني “اليمن الجمهوري” وشراؤه بقصد إتلافه وتغييب حقائقه حتى لا يكون مقروءا.
بالنسبة للدولة تتجلى مواقفها السلبية في الحفاظ على إرث البردوني انطلاقا من مواقفه الرافضة للظلم وإطروحاته التي كانت تقدم معالجات فكرية للكثير من الأخطاء السياسية الكارثية فالشاعر البردوني لم يتمتع بأي امتيازات خاصة أو أي تكريم يليق بمكانته الشعرية والفكرية، لا في حياته ولا بعد مماته، ففي حياته أحيل على التقاعد براتب زهيد من العيب أن يذكر، وبعد مماته لم تحرص الدولة بالاعتناء بتراثه وجمعه أو الدفع به بطريقة مستعجلة للطباعة، هذا الإهمال نجم عنه بعد ذلك ضياع الكثير من إرثه الشعري والفكري، وأدى آخر المطاف إلى انهيار منزله كإدانة حقيقية لكل مؤسسات الدولة، وفضح للوجوه الدخانية في زمان بلا نوعية أو هوية حقيقية.