القهوة.. إيحاءٌ في الرّغبة

القهوة.. إيحاءٌ في الرّغبة

إياد عبود*

اللوحة: الفنان الفرنسي جوليان سوليه

أحتاج اليوم، أن نشرب معاً، فنجاناً من القهوة الغامقةِ جداً.. كما نُحبّها أنا وأنتَ.. بلا سُكّر.. تأخذنا معاً إلى عوالم الكبرياء.. نرتقي بعفوية نحو العِطر الذي ينبعث من رائحتها.. نلملم الحُلم معاً، من الرّغوة التي تكسو وجهها الجميل.. نتعانق بالأفكار.. ونمارس فَنَّ التّآلف والاتحاد معاً، بلا كلام.. عيوننا تفضحنا.. الابتسامات الشّاردة بيننا تنتشل لؤلؤ القلب عن قارعة الطّريق.. نشرب القهوة معاً، ولا نفترق.. نتحمّم عاشقين برائحتها البِكر.. نمارس طقوس التّواصل بجرأة.. لا نخاف المعاني.. ولا ننسى أنّنا على نفس المقعدِ، وعلى نفس الطّاولةِ، نقرأ معاً ما يظهر على مسارات الشّفتين، ولا نقول..! لا صلاة في الكون، أعظم من صلاة عاشقين، يدوران في فوضى المشاعر على قهوة..! لا كلام يُقال، يكون أعظم من أن تنساب فقاعات القهوة بين شفتيكَ لتخلقكَ..!

أنتَ حرّيتكَ.. لكنّك مع القهوة لا ترضى إلّا الاستسلام وحق العبودية في فرائس نشوتها.. وهي تكونكَ بلا مُنازع.. 

اليوم.. والآن.. أنا وأنتَ، وفنجان قهوةٍ، ورائحة.. هل تأتي..؟!

أعرفُ أنَّكَ هُنا.. معي.. والآن..! وأعرف أنّنا معاً، نقترفُ خطيئة فنجاناً من القهوة معاً..! نعم، نشربُ القهوة من نفس الفُنجان، كما قلتَ لي: “لا قهوةُ من غير شفتين.. ولا شفتين إن لم تكونا شفتيكِ..!”. ومنذ ذلكَ الوقت، وأنا أشرب القهوة بشفتيكَ، وأُشرِبُكَ القهوة من شفتيَّ..!

على مساءٍ.. كان بيننا فنجان قهوةٍ، وحِوار..! وبدأتَ تنفث سُمَّ كلماتكَ في دمي، وتقول: “بلقيسُ.. كانت لِسبأ.. وأنتِ على عرش هذا الوقت تُحلّقين.. تمرّين بكبرياء الأنثى.. يتسلّل عطركِ على جسدي.. تخذلني الشّمس.. لكنّني لا أسقط.. ينتّشلني وجهكِ المُضيء.. شعركِ المتروك على ظهركِ يهزّني.. بحرٌ لا نهائي.. صوتكِ عَذِبٌ.. كأنّه موسيقى.. وعرشُكِ الكون الذي لا يليق إلّا بكِ.. وأنتِ ماء..!

بلقيسُ أنتِ.. لمّا كان عرشها الأرض.. وكان الكلّ على ركبتيه ساجداً لكِ ينتظر..! سأقول لكِ أكثر؛ أنتِ أنثى.. وَهُمْ على بلاط جمالكِ يتساقطون بلا معنى.. كبرياءٌ قاتلٌ أنتِ.. أنثى بكلّ الإناث.. سيدةٌ.. وملكةٌ.. ولا تجاريكِ زهرة تمرّين بها، إلّا لتكون بعض بعضكِ وعطرها رائحتكِ..! وأنا اليوم، سأنتظر بلقيس فيكِ، كُلّ العُمر.. وأكن فيكِ على عرش سبأ مَلَكْ..!”. وتصمتُ أنتَ، وأنا بعدكَ أثور..!

معكَ أدمنتُ كلّ شيء..! أدمنتُ رائحة القهوة، التي تأتي من خلف الأبواب المُغلقة..! فكلّما توضّأتْ الصّباحاتُ العَذْبَةُ لِقُبْلَةِ الشّمس الحارقة، على حين شهوةٍ، كُلّما آمنتُ بالمُستحيل..! تتزاحم الحكاياتُ، جيوشاً وقبائلاً، على الأبواب المُغلقة والمُشرعةُ نحو السّماء..! كلّ إماءةٍ من أبوابِ عينيكَ تأتي، تسقط معها، على قلبي، رائحةٌ لذيذةٌ، لقهوةٍ ما، قديمةٌ جديدةٌ، تَخِرُّ على شموس نهاري عاشقة، وكأنّها تمارس فيكَ نشوتها في وقتٍ مضى أو سيأتي..! فتحتُ اليوم عليكَ بابَ قلبي، على آخره، تُهتُ فيكَ من غير أن أدري.. تُهتُ عليكَ، وكأنّني ما خُلقتُ إلّا لأكون لكَ..! هذا الوقت من النّهار، لا أستطيع التّمييز فيه بين رائحتكَ ورائحة شفتيكَ على حواف الفُنّجان..! القهوة فيكَ، تسلبني إرادتي.. أنا اللبؤة المُتمرّدة، أتوه.. أتجرّد.. أتوسّل.. لكنّني في المساحة الأخيرة من الفُنجان، أسقط من على عرش عينيكَ كأنّني المُستحيل..! وأبدأ هُناكَ، من غير توانٍ، ممارسة عشقي الجديد..!

سماكَ عالية منذُ عرفتُكَ.. وتشبيهاتُكَ تتركني بفوضى العابثين، ألملمُ ذاتي، ولا أصل..!

سأحرّرُ النّصَ، هذا اليوم من سذاجته.. سأنزعهُ بعنفٍ، من مُجريات الرّتابة المُسيطرة عليه، منذ أكثر من صلاةٍ وعبادة.. سأتركه يحترق بذاته، لن أتدخّل بما يعتريه، سأتركه يمشي من أوله إلى آخره من غير تدخُّلٍ منّي أبداً..! كي يأتي النّصُ دافئاً، مختلفاً، قريباً من القلب، يبعث على الفوضى ويقتل الرّتابة..! لذا؛ اتركهُ ينضج فيكَ لوحده، لا تُباغته في لحظة التّكوين والتّوالد، حتّى لا يأتيكَ مترنّحاً معلولاً، يتنفّس بصعوبةٍ، وتحاول جاهداً انقاذه، بأن تركض به إلى غرفة الإنعاش، لكنّكَ، وللأسف، لا ولن تُدركه..! اتركْ النّص يأخذ وقته.. اتركهُ فيكَ ينمو كداليةٍ بلا تعبٍ أو معاناةٍ.. أو، اتركه في مكانه الذي يتشكّل به حتّى ينضج، ومن غير سوءٍ سوف يأتيكَ، ومن غير أن تمسسهُ يدُ بشرٍ، سوف يسّاقط على ناركَ رُطباً شهيّاً..!

وكلُّ نَصٍّ يولد، يكون لا قيمة له، إن لم يتحرّر بالقراءة.. هذا النّص دونكَ.. سيكون فارغاً، إن لم تُمشّط حروفه بعينيكَ، وتحرثه بأنفاسكَ كاللهب، أو تُكحّل عجيب معانيه بابتسامتكَ الشّهيّة، والتي تأتي منكَ عند التّعب، عندما تسقط على وجنتيكَ حبّات المطر..! اليوم.. لا نصوص تأتي، إن لم تولد من رِحم عِطركَ الغجري وقت السّحَر..!

أعرف، أنّكَ أينما تكون، فأنتَ عندي.. وأينما تولّي وجهكَ، فبعد الله، لا يكون إلّا لِقبلتي..! سأورق في كلّكَ باذخاً بستانَ قَصَب.. سأتجذّر في قلبكَ وروحكَ أغنية أزليّة.. وسأعربش على عوالمكَ السّرمديّة أيقونةٌ من ذهب..!

أنتَ في روايتي البطل.. فلا أستطيع التّخلي عنكَ مُطلقاً.. ولن أترككَ للغربان تنهشكَ.. ولا لإناث الطُّرقات الجائعة تشبع بكَ.. أنتَ مُلكي.. مُلك هذه الرّواية، وسيّد كلّ التّفاصيل فيها، فلا تترك نَفْسَكَ مُباحة للجميع..! لذا؛ وخلال لحظات الكتابة، ومهما حاولت أن أغيّر في ملامحكَ كبطلٍ، لا أستطيع، لأنَّ البطل عادةً يكتب ذاتهُ، وليس للمؤلف عليه سبيل، أبداً، وأنتَ بطلي، لا لي عليكَ السّبيل، لكنّه الحبّ، يخلقني ويخلقكَ، يجرّدني ويجرّدكَ، يصنعني ويصنعكَ..!

الكتابةُ عنكَ ولكَ، مخزونةٌ بمفازات اللاوعي جوّاتي، فلا أستطيع العبث بها ككاتبة، كما لا أستطيع مزاولة مهنة التّحرّش بها، لأستميلها وأضعها حيث ما أريد، في المكان الذي يعجبني وأريده، وبالطّريقة التي أراها مناسبة لذلكَ، لا حيث هي ما تريد أن تكون..! لكنّها، وللأسف، الكتابة، هي التي تأتي كما تريد، ورغماً عن أنفي، شئتَ ذلكَ أم أبيتَهُ، ولا يسعني في النّهاية، إلّا أن أتجرجر خلفها، بلا أدنى مقاومةٍ منّي، حتّى يأتي العمل الرّوائي على أكمل وجهٍ، ما استطعنا إلى ذلك السّبيلا..!

من أجل كُلِّ ذلك، أنا الكاتبة، لا أرتوي أبداً، إذا ما حاولتُ أن أستبيحَ اللغة على حدود مملكتكَ.. فقط، أحلّق، وأرتقي، ويُصيبني الارتواء، عندما أدخلكَ، أتقمصكَ، أعيشكَ، أكونكَ، عندها تأتي بهيّاً كأنَّكَ بدر التّمام.. وأنا آلهتكَ..!

الكُفر.. ليس ألّا تؤمن..! الكُفرُ.. أن تكون مؤمناً، فترتَدْ..! وكنتُ مؤمنةٌ قبلكَ، وعندما التقيتكَ، ارتدَّيتْ..!

لأنّي التقيتكَ، سأنتقم من زمنٍ ضاع دونكَ بلا معنى.. سأنتقم منكَ، إذا جئتَ بابي ومضيتَ من غير أن تقول.. سأنتقم إذ تأتي على جارتنا ولا تمرَّ إليَّ.. سأنتقم إذ تشرب قهوتكَ لوحدكَ من غير دعوتي للتقبيل.. سأنتقم إذ تقول لجارتكَ أعرفها ولا تقول أحبّها.. سأنتقم إذ تصلّي صلاة الصّبح ولا ترفع يديكَ نحو السّماء تمرَّ بي.. سأنتقم إذ ترقص على وترٍ، ولا أكون فيكَ الأنين.. سأنتقم مِنّي، إذا تركتَ هذا المساء من غير أن أمارس على يديكَ غزوة الفاتحين..!

نعم، سأنتقم منكَ.. سأغرز راياتي في مجاهل كيانكَ، سأمرّر فمي المُتَّقد على شاربيكَ حتّى يثور فيكَ الحريق. سأنشر كلّ جيوش أنوثتي على سهول رجولتكَ، أزرع في كلِّ شبرٍ مهمازي، وأكفر بالذي يأتيكَ منّي، ولا أستهين. سأرمي بقلبي من آخر السّماء على قلبكَ، حتّى يعلو صراخكَ يُفزع العالمين. سأعلن اليوم فيكَ، فتحي العظيم..! سألوثكَ بالخطيئة.. ستطلب رحمتي.. ولن أرحمكَ..! سأحرركَ بالانتقام من وزرٍ عشتَهُ من غير أن تكونَ في مُدني من الفاتحين..! لذا؛ دائماً، في صمتي أعيد تشكيلكَ من جديد، وأنتظركَ..!

أنتَ وحدكَ.. ظلكَ لكَ.. لا أحدَ غيركَ في الطّريق واقف.. لا صديق يمشي معكَ.. ولا أخٌ يسند لكَ ظلكَ.. أنتَ فقط لكَ.. لا غيركَ، وما مِنْ أحدٍ معَك..!

كان موعدنا أنْ نلتقي هذا المساء البنفسجي على السّاعة السّابعة تماماً، بتوقيت الحبّ، حيث تكون بوصلة الأحداث بهذا الوقت، تُشير إلى التّوافق التّام فيما بيننا، بعلم التّنجيم والكواكب..! وأنتَ كنتَ دائماً بعيداً عن قراءة الفنجان، لكنكَ قريباً من نبضات القلب..! بينما أنا، كنتُ أميل – ولو قليلاً – إلى الماورائيات في مثل هذه الحالات التي تربط ما بين حبيبين..! لذا؛ اخترتُ هذه السّاعة بالضّبط، من اليوم العاشر، من شهر حزيران، لنلتقي على قارعة الوقت، في مقهى “ركوة عرب” في جبل اللويبدة، ونحتسي فنجانان من القهوة السّوداء المُرّة، والتي تفوح من قلبها رائحة النّشوة، وتسبقها إلى حواسّنا دوماً دونما ابتذال، كأنّها دعوة مفتوحة لممارسة الحبّ المكشوف بلا حِساب..!

بتوقيت البنفسج التقينا.. وعلى فنجان من القهوة وأربعة شفاه بتوقيت النّشوة افترقنا..!

يا الله.. أدوخ لمّا التقيكَ.. ولمّا تغيب عنّي أدوخ..! لمّا تجيئني، أدوخ من نشوة حضوركَ.. ولمّا ترحل عن مُدني، أدوخ من عطر انتظاركَ..! مفصومةٌ أنا بكَ..!

مرّت أصابعه الطّويلة تزحف بلهفةٍ فوق الطّاولة التي نجلس عليها، تحاول لاهثة أن تسبق اللحظات، لتنام على يديَّ باحتفالٍ كرنفالي لا يسكتهُ صوت الضّحكات التي تتعالى حولنا من كلّ الاتّجاهات، حيث كان المقهى يغصّ بالعاشقين من كلّ نوعٍ. إنّه لقاءنا الأول، أوَ أتجرؤ على هذا أيّها الخمسيني المجنون.. ؟! هكذا يرتفع صوتي بوجهه بلا حذرٍ ومن غير خوفٍ، حتّى يخاف منّي وينسحب، لكنّهُ، ما خُلقَ من طينةٍ كهذه، ليجبن في مثل هذه اللحظة المصيرية، والتي بدأ يُشعل فيها وهج الانتصار على أعتاب عينيَّ..! هذا المساءُ، بوابات الله مفتوحة أمام جرأتهُ لينتصر على خوفي فيما بدأ..! خيولي مُسرجة.. وقلبي معبّأ.. ولا ينقصني غير أن يسقط من آخر السّموات دائخاً على أساور معصمي..! إنّها الحربُ، والصّهيل مُستعر، فهل أستسلم في حربٍ تأسرُ خافقي في أتون غازٍ عليَّ..!

القهوة ايحاءٌ بالرّغبة..!

القهوة أنثى.. وكلّما لامست شفاهي بنشوةٍ، أصير لا أهزم.. أصير جبّارةً على الأرض، وبالحبّ أصير إعصاراً.. ولا أُهزم..!

القهوة.. لا تدور في رأسي، إنّها تثور.. وأنا لا أخشى على شيءٍ أخسره، أكثر مما يكون بمثل هذه اللحظة..! فكلّ ما أخشاه الآن، أن أسقط على جسدي مغشيّاً عليها، ويخشاني بعد الحبّ نور، وبعد الوعي جنون..!

القهوة أنثى.. وهي أنثى قاتلة.. 

أنثى القهوة.. تهديكَ الآن، وبلا حسرةٍ، موتكَ الرّابع..! مُتْ أو اتَّعظ..!


*نص من روايتي «سيدة الكارما» (مخطوط)

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s