القهوة.. قمرٌ أسود أضاء ليل العالم

القهوة.. قمرٌ أسود أضاء ليل العالم

وليد الزوكاني

اللوحة: الفنان المصري عمر الفيومي

القهوة أكثر المشروبات شعبية في العالم، ولعله المشروب الوحيد الذي ارتبط باجتماع الناس حوله، فيفضل أن يشرب بين جمعة من عشاقه، ومن هنا جاء المقهى وهو المكان العام الذي تقدم فيه القهوة، ثم أصبح كل مكان لأشربة – غير مخصص للأشربة الكحولية – مقهى (cafe)، لكن مهلاً، أليست القهوة هي الخمر؟!

ففي لسان العرب: القَهْوة الخمر، سميت بذلك لأنها تُقْهِي شاربها عن الطعام أَي تذهب بشهوته؛ وقبل اكتشاف الشراب المحضر من غلي حبوب البن بوقت طويل، ربما بمئات السنين، ذكر الشعراء القهوة بوصفها الخمر،

يقول أبو نواس:

أدرها وخذها قهوةً بابليةً

لها بين بُصرى والعراق كرومُ

ويقول في قصيدة أخرى:

اسقِني سَبْعًا تِباعا

وأدِرْهُنَّ سِراعا

قهوةٌ يحسَبُها الناظِرُ

إنّ صُبَّتْ شُعاعا

ويقول الشاعر العباسي حسين بن أحمد الكاتب:

قُوما اسقياني قهوةً رومية

من عهد قيصر دنُّها لم يُمسسِ

صِرفًا تُضيف إذا تسلّط حكمها

موتَ العقول إلى حياة الأنفس

ويقول البحتري:

اشرب على زهر الرياض يشوبه

زهر الخدود وزهرة الصهباء

من قهوة تُنسي الهموم وتبعث

الشوق الذي قد ضل في الأحشاء

ويقول أبو عثمان الناجم، وهو شاعر عباسي:

وقهوة كشعاع الشمس صافية

مثلُ السراب تُرى من رقةٍ شبحا

إذا تعاطيتَها لم تدر من فرح

راحاً بلا قدح أُعطيت أم قدحا؟

فما حكاية القهوة إذن؟

تتفق الأبحاث أن القهوة بدأت كنوع من الحبوب تؤكل كما هي – في إثيوبيا (الحبشة) – كما تؤكل المكسرات الآن، وفي القرن الثالث عشر الميلادي انتقلت إلى اليمن المجاور لها؛ ولنتذكر أن اليمن وإثيوبيا كانا طوال تاريخهما القديم بلداناً متجاورة، وأحياناً متداخلة، فتجار مملكة سبأ اليمنية أقاموا مستعمرة تجارية في شمال إثيوبيا، والخط المسند وهو الخط اليمني القديم نقل من إثيوبيا، كما أن أسطورة مملكة سبأ هي أسطورة مشتركة بين الإثيوبيين واليمنيين، وبلقيس اليمنية هي ماكيدا (الحبشية) الإثيوبية وأحياناً كنداكة، وفي القرن السادس الميلادي دخل الأحباش اليمن عام ٥٣٣م وأسسوا فيه مملكة إلى أن انتصر عليهم سيف بن ذي يزن عام ٥٧٠م بدعم من الفرس، ما نريد تأكيده هو التداخل الحضاري اليمني الحبشي (الإثيوبي) في التاريخ القديم قبل الإسلام.

المُغوية الملعونة

قلنا إن حبوب البن عُرفت في إثيوبيا وتناولها الناس كالمكسرات، ثم انتقلت إلى اليمن في القرن الثالث عشر الميلادي، وبهدف الاستفادة من خواص هذه النبتة المنبهة استخدم الصوفيون الشراب المحضر من غلي حبوبها، لتحسين مزاجهم ومساعدتهم في السهر والعبادة، وبالطبع لن نجادل فيما إذا كان الصوفيون هم فعلاً أول من اكتشف هذا الشرابُ أم غيرُهم، لكن المؤكد أنهم أول من شربوها في جلساتهم، وحلقات الذكر التي كانوا يقومون بها، وكان لخواصها المنشطة أثر كبير في إقبالهم عليها.

ثم انتفلت القهوة من اليمن صعوداً إلى مكة والمدينة في القرن الخامس عشر الميلادي، وكان انتشارها سريعا مقارنة مع السلع والمشروبات الأخرى، وفي القرن السادس عشر دخلت القهوة مصر من خلال الطلاب اليمنيين الدارسين في الأزهر، وبالطبع حرَّمها علماء الأزهر مستندين إلى اسمها (القهوة/الخمر) دون النظر إلى تركيبها وخواصها، وفي منتصف عام ١٥٧٢، أدت خطبة لأحد علماء الأزهر إلى هياج شعبي ضد القهوة دفع بالناس إلى تحطيم المقاهي، وفي نهاية العام نفسه ١٥٧٢، صدرت فتوى من مشايخ الأزهر بمنع المنكرات والمسكرات والمحرمات والقهوة، وبغلق أبواب الحانات والخانات والمقاهي وكسر أواني صناعة القهوة وتقديمها، وقامت الشرطة (العسس) بتنفيذ هذه الفتوى، فهدموا بيوت القهوة وكسروا أوانيها ومنعوا تجارتها، ويقول الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية السابق خلال المؤتمر الرابع لدور وهيئات الإفتاء في العالم الذي نظمته دار الإفتاء المصرية في أكتوبر عام ٢٠١٨، “أنه من المؤلم أن نجد خلافا فقهيا بين حل القهوة وحرمتها، لأن القهوة اسم من أسماء الخمر.. فحرم العلماء القهوة دون أن يعرفوا مكونات هذا المشروب، وظل بين الحل والتحريم 400 عام، وهذا مؤسف.”

بالطبع لم تكن فتاوى المنع والتحريم حكراً على رجال الدين في مصر، ويذكر التاريخ أن السلطان العثماني مراد الرابع الذي حكم في القرن السابع عشر، أمر بقطع رأس شارب القهوة في الأماكن العامة، كما لقيت القهوة معارضة شديدة في اليمن ومكة والمدينة ونجد، وتفاوتت فتاوى رجال الدين في هذه البلدان بين من اعتبر مجالسها مدعاة للهو ومضيعة للوقت بدلاً من الاستغفار وعبادة الله. وبين اعتبارها نوعاً من المسكرات؛ وارتباطها فيما بعد بتدخين السجائر جنى عليها أكثر، وعدت من مشاريب الفسق والمرتبطة بالضرر والتهلكة.

كما لم تسلم القهوة من رجال الكنيسة المسيحية في أوروبا، فعندما بدأ انتشارها في فينيسيا (البندقية) في بدايات القرن السابع عشر، ثار جدل كبير بين رجال الدين حولها، ووصل الأمر للبابا كليمنت الثامن، فتذوق القهوة وأعجبته ونالت تأييده، وبذلك انتهى الخلاف حولها.

ومع كل ما واجهته القهوة، إلا أنها كانت ومازالت مشروباً مغوياً، لم تستطع أن تقف أمامها كافة العقبات واللعنات وحملات التنكيل والقتل، واستمرت بالزحف من مدينة إلى أخرى، وكانت أسرع المشاريب انتشاراً في التاريخ البشري، لتبدأ رحلتها في التغيير البطيء للسلوك الإنساني المرتبط بالطعام والشراب والضيافة والسهر، وتغيير أنماط الحياة، وتعديل نشاطات الليل والنهار، وإذابة الفوارق بينهما، وبفضلها أصبح الليل وقتاً للبهجة والعمل، وأصبح السهر من العادات الجديدة التي أدخلتها القهوة، وصار الطلاب والدارسون والكتاب والمفكرون يمضون وقتا أطول من الليل في الدرس والعمل أو في التسلية والأقاويل، وأصبحت القهوة مشروبا رسميا، وستغزو مدن أوروبا والعالم، وستصبح أميرة السهر، وملهمة الشعراء والكتاب والفنانين، وسيدة المشاريب في كافة أنحاء العالم، وسيقبل عليها رجال الدين أنفسهم.

بدءاً من منتصف القرن السادس عشر ستدخل القهوة اسطنبول حاضرة الدولة العثمانية، وسرعان ما ستنتشر المقاهي فيها لتصل إلى مدن السلطنة كافة بما فيها سراييفو وبقية المدن العثمانية في أوروبا. وفي عام ١٥٨٢ سيتم إنشاء نقابة تجمع أصحاب المقاهي في جمعية خاصة، وكانت هذه النقابة من النشاط بحيث تشارك في مختلف العروض التي تقام في العاصمة اسطنبول. وفي منتصف القرن السابع عشر ستبدأ القهوة بغزو المدن الأوروبية كفيينا وباريس ولندن وبرلين والبندقية، وستصل في الوقت نفسه إلى أميركا (أول مقهى في أميركا عام ١٦٧٦ في بوسطن)، وستزدهر تجارة القهوة بين الشرق وأوروبا.

شراب الطقس الجماعي

تميزت القهوة منذ البداية بجلساتها الخاصة، فلم تكن مشروبا فرديا يتناوله الشخص في منزله أو في مكان عمله، بل كانت مشروبا ذا طابع اجتماعي، يتم تناوله في جلسات خاصة أو في أمكنة عامة؛ ولعل البداية الاجتماعية للقهوة في اليمن، من خلال ارتباطها بحلقات المتصوفة، لازمتها فيما بعد، وهو ما أدى إلى تعميق طابعها الجماعي، بإنشاء بيوت خاصة بها (المقاهي)، وتخصيص أماكن في المدن والأسواق لتناولها، واللافت أن هذه المقاهي كانت في العصور الوسيطة تضم خليطا من كل الطبقات الاجتماعية، ثم أنشئت مقاه خاصة لكل حرفة ومجموعة. فصار هنالك مقهى للحدادين، ومقهى للنجارين، ومقهى للخياطين، وللعطارين وهكذا، حتى أن بعض هذه المقاهي الخاصة ببعض الحرف اتخذت لنفسها شعارات محددة تعرف بها، ولم يكن ثمة فصل في المقاهي بين الطوائف والمذاهب المختلفة، فكل مقهى يضم بين رواده المسلم والمسيحي واليهودي واليوناني والإيطالي وغيرهم. وكانت بعض المقاهي تقدم ألوانا من العزف الموسيقي، والنشاط الترفيهي المختلف، ما خلق أرضية جديدة للنشاطين الاجتماعي والفني. 

شكلت القهوة محوراً لاجتماع بشري جديد يقوم على المقهى كقاعدة مادية وعلى عادة مشتركة وهي شرب القهوة وعلى إحساس متنامي بهشاشة الفوارق المصطنعة بين البشر.

وبذلك شكلت القهوة محوراً لاجتماع بشري جديد، وبدأت كما أسلفنا تغير من فهم الناس وسلوكهم، ففكرة أنه يمكنك الذهاب والجلوس بجانب شخص آخر بغض النظر عن مستواه المادي وطبقته الاجتماعية كانت تغييراً كبيراَ في المجتمع، واختبارا ملموسا لفكرة المساواة بين كافة أفراد المجتمع؛ وهكذا كونت حولها – القهوة – أنماطا جديدة من النشاط الاجتماعي في المدن، خارج نطاق السلطات الدينية والسياسية، وشكلت بنى اجتماعية جديدة تقوم على المقهى كقاعدة مادية، وعلى عادة مشتركة وهي شرب القهوة في أجواء اجتماعية معينة. وعلى إحساس بهشاشة الفوارق المصطنعة بين البشر.

فيما بعد سيلعب المقهى في باريس الدور الأساسي في التنوير، ومن ثم في أعظم ثورة في أوروبا وهي الثورة الفرنسية، ويُنقل عن شارل مونتيسكيو الكاتب والفيلسوف الفرنسي قوله: «لو كنت حاكما لهذا البلد لأغلقت المقاهي التي يرتادها أناس يقومون بإشعال الأدمغة».

السوداء المحرضة على العصيان

في أواخر القرن السابع عشر، وتحديداً في العام ١٦٨٦، افتتح مقهى “البروكوب” الذي يعتبر الآن من أعرق مقاهي باريس والعالم، وبدأ يتردد عليه الشباب، وكان منهم الأدباء والشعراء والفلاسفة، ليشهد هذا المقهى كثيرًا من النقاشات الفكرية والسجالات السياسية، ولتنطلق منه بعد مائة عام على افتتاحه (١٧٨٩) شرارة الثورة الفرنسية التي غيرت أوروبا وألهمت العالم. ففيه انعقدت أولى الاجتماعات التي تسببت في بداية الاحتجاجات، ثم توالت اجتماعات الثوار في المقاهي، وتحولت إلى منصة للانطلاق منها، وبسبب ذلك شرعت السلطات الفرنسية في الاستعانة بالمرتزقة الأجانب من أجل مهاجمة المقاهي وقتل من بداخلها، في محاولة منها لوأد الثورة.

فيما بعد ستنتشر المقاهي في كافة مدن العالم صغيرها وكبيرها، وستتحول إلى منتديات أدبية وفكرية، وسيولد فيها الكثير من الأفكار الأدبية، وستنجب أدباء ومفكرين، وستصبح مسرحًا لنشاطهم واتصالهم بالناس. 

سيرتبط مقهى «فلور» الباريسي بجان بول سارتر، وفيه سيلتقي الشباب والمثقفون بفيلسوف الوجودية، ومن هذا المقهى سيعترض سارتر على حرب الجزائر، وينظم المسيرات المؤيدة لثورتها، وسيرتبط مقهى «لى دو ماجو» بالشاعرين الصديقين المتمردين آرثر رامبو وبول فرلين، وسيرتبط مقهى «ليب» بإميل زولا، ثم بإرنست همنجواى، وسيشتعل الجدل في مقاهي باريس حول التيارات السياسية والأدبية، ومن أحد مقاهي الحي اللاتيني سيصدر أندريه بريتون البيانات الشعرية السريالية. 

وسيرتبط مقهى “البروكوب” إضافة إلى الثورة الفرنسية التي انطلقت منه، بالحوارات الفلسفية والفكرية، وبفولتير وفكتور هوجو، ومونتيسكيو الذي كتب فيه جزءاً من رواية الرسائل الفارسية، كما سيرتبط بالعالم والدبلوماسي الأميركي بنيامين فرانكلين الذي ساهم بصياغة الدستور الأميركي، وكذلك سيرتبط هذا المقهى بنابليون بونابرت حين كان برتبة ملازم، وكان كثيراً ما يرهن قبعته لقاء شرب القهوة حين لم يكن يملك ما يكفي من المال، وفي القاهرة سترتبط مقاهي الفيشاوي وعلي بابا بنجيب محفوظ، وسيرتبط مقهى ريش بأمل دنقل، وفي دمشق سيرتبط مقهى الهافانا بمحمد الماغوط وزكي الأرسوزي ومظفر النواب، وستظل المقاهي في كافة بلدان العالم مسرحاً للنقاشات الفكرية، ومنتديات حقيقية للنقاشات التي ستغير العالم.

بدأ هذا الشراب الأسود كمشروب مقدس مرتبط بالعبادة وبحلقات الصوفيين في اليمن، ورغم ما كابده من منع وتكفير ولعنات، واصل انتشاره ليعم العالم خلال أقل من ثلاثة قرون. وخلال هذه الفترة أبت القهوة أن تستكين وتنزوي كمجرد مشروب ساخن على قوائم طعام البشر، بل أصرت على طابعها الاجتماعي والطقسي، وجرّت البشر إلى أكثر بكثر من مجرد احتسائها والتلذذ بطعمها المر، لقد كان هذا المارد الأسود لعنة على الليل، عبثَ به وجعله أشبه بالنهار، كما كان لعنةً حقيقية على الظلام والأفكار المتحجرة، أيقظَ عقولاً وأشعل ثورات. 

ومازالت القهوة رفيقةً ومُلهمةً لكل المفكرين والشعراء والفنانين والمبدعين في كافة أنحاء العالم، جنية الإلهام الملازمة لهم، قمر الليل الأسود الذي طرد من العتمة أشباحها، أميرة السهر العصية على الهزيمة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s