جولييت المصري
اللوحة: الفنان الفرنسي جاك لوي دافيد (نابليون يعبر جبال الألب)
لا أجيد غير الفرنسية، حقا سافرت في رحلات كثيرة مع سيدي الإمبراطور، لكني لم أستطع أبدا إتقان أية لغة مما سمعت، ورغم استحساني للغة العربية التي كانت تجري على لسان المصريين، إلا أنني لم ألتقط منهم غير جمل تعد على الأصابع.
نعم، أتقن الفرنسية وأعشقها، وأحب رحلاتي بصحبة سيدي في أنحاء فرنسا، وأحن إلى العاصمة باريس كثيرا.. آه.. باريس!
أتدرون ما الذي أحن إليه أكثر في باريس؟ إنها روائح الأطعمة الإيطالية الممتزجة بأبخرة القهوة في مقهى “البروكوب” أعرق مقاهي باريس، ذلك المقهى الصغير الذي لم يتوقع صاحبه الإيطالي الأصل ” فرانشيسكو بروكوبيو” حين فكر في إنشائه عام 1686 مجاورا لمسرح كوميدي فرانسيز آن ذاك، أن يصبح أشهر وأعرق المقاهي الأدبية في العاصمة، لكن سرعان ما نجح المقهى وصار يتردد عليه الأدباء والشعراء والفلاسفة، ولم لا، وهو يسكن في مكانه الشاعري من قلب باريس، بمدخله الأنيق، وديكوره المشع بالجمال المعتق من الخشب البني الداكن وتأثيرات ألوان الستائر التي يضوع من طياتها بخر الطعام الشهي مشبعًا برائحة القهوة والنبيذ، ورائحة التبغ الممتزج بعطور النساء.
وأحن أكثر إلى شقيقتي المنسية القبعة رقم «1» التي يتغاضى عن وجودها السادة الذين يمتلكونني الآن، هؤلاء الأثرياء الذين يركضون خلف القطع الأثرية التي يتكالبون على اقتنائها بملايين الدولارات، لا لشيء إلا لأنهم تحصلوا على أموالهم من دون تعب، واكتملت رفاهيتهم حد الامتلاء، ولم يعد لديهم من منافذ ينفقون فيها غير اقتناء التحف والمجوهرات والنوادر التاريخية؛ ليزينوا بها ديكور اكتمالهم، وموائد امتلائهم.
لقد نسوا شقيقتي القبعة رقم «١» فقط لأنها فقيرة، نعم، فقد شهدت أيام بؤس سيدي وفقره، وأيام تسكعه في البارات الرخيصة والحانات، وقتها لم يكن يملك غير طموحه وإحساسه بالعظمة، ولكنه لم يكن لديه أحيانا ثمن الكأس التي يفضل احتساءها في ركن البروكوب، نعم، أتعلمون أن نابليون بونابرت حين كان لما يزل برتبة ملازم لم يكن يمتلك أحيانا ثمن فنجان القهوة؟ ومع ولعه بالجلوس في المقهى، وسماع نقاشات الشباب من رواده، وأمنياتهم التي يعبرون عنها بحماس شديد، كثيرا ما كان يضطر إلى رهن قبعته مقابل فنجان قهوة أو كأس من النبيذ، ثم يعود ويأخذها في المرة القادمة بعدما يسدد دينه، وهكذا كنا نتبادل الأماكن على مشجب في المدخل الهادئ في انتظار مجيئه، يعتمر إحدانا ليجوب بها شوارع باريس وضواحيها، تاركا الأخرى تطالع وجوه الرواد مستمتعة بالموسيقا التي تنبعث مع سيمفونية الراوئح المختلطة في الداخل. وآخر قبعة رهنها هناك – شقيقتي الكبرى – مازال المقهى يحتفظ بها معلقة على الجدار ومعروضة للزوار.
أعلم أنكم في قرارة أنفسكم تسبون علي، تتحدثون من خلف ظهري بمذمتي، لا يعجبكم حديثي – أعرف – ولا ما أقصه عليكم، تقولون في أنفسكم أني عشت حياة يتمناها الكثيرون، فقد سافرت حول العالم، وجالست الأمراء والأثرياء، وسمعت نقاشات القادة والمتنفذين والمسيطرين على مقدرات بلاد العالم، وتشاركت موائد الطعام الشهي، والخمر المعتق وما لذ وطاب من أطايب الحياة، فلم الشكوى ولم الحنين؟ لكني سأستمر في الحكاية، فإن رغبتم سماعي فها أنا أجالس منكم المنصتين، وإن أردتم الانصراف فلا تثريب عليكم.
نعم، كان سيدي الإمبراطور وقتها ملازما بسيطا لم يتجاوز العشرين من عمره بعد، يعشق ارتياد ذلك المقهى، ربما لأن أصوله الإيطالية جعلته أقرب ما يكون لتلك الأجواء، يجلس في مقعده يتسمع للنقاشات التي تدور حول آراء فولتير ومونتسكيو وجان جاء روسو، وهؤلاء جميعاً كانوا من رواد المقهى قبله، و وجان جاء روسو كان الأكثر تأثيرًا في تفكيره، ولذلك صار اكبر داعمي دعوته الى تأسيس الجمهورية الفرنسية، وكلما ترقى في منصبه، اقترب أكثر من تحقيق طموحاته؛ ليصبح الآن إمبراطورا لفرنسا يقودها من نصر لآخر، وازداد عددنا – نحن الشقيقات – وتنوعت أشكالنا وألواننا حتى صرنا 120 شقيقة نتناوب على رأسه، لكنه لم يعد يتذكر أيام “البروكوب”، لم يعد يصطحبني إلى هناك، والأكثر ألما من ذلك، أنه نسي شقيقتنا الكبرى، نسيها معلقة على مشجب في جدار المقهى منذ سنوات بعيدة لم أعد أعرف عددها.
كلما تذكرت تلك الأيام، تخنقني عبراتي، ربما كنت أنا تلك المعلقة هناك لو كان الدور وقتها من نصيبي وبقيت مكان شقيقتي رقم «١»؟ هل يهتم بها أحد؟ هل تأتنس بصحبة أو ألفت المكان؟
أثوي الآن بين ملابس سيدي الإمبراطور، أنتظر أن يتذكرني مرة، ليصطحبني في رحلة جديدة من رحلاته حول العالم، لكني على أية حال أنعم بالدفء والاهتمام.