وجهان للكآبة

وجهان للكآبة

نبيلة غنيم

اللوحة: الفنان الأمريكي ماكسفيلد باريش 

تَفَرُد 

ترسل السماء أشعتها إلى نافذته، يفتح عينيه في تكاسل عظيم، موسيقى “الهارد روك” تتسلل إلى أذنه، تحاور مشاعره، يهتز جسده معها، يترنح، يتفاعل مع دقاتها، صار كمن شرب زجاجة خمر كاملة، قهقه بصوت يفوق صوت موسيقاه العالية، التفت إلى المرآة، ابتسم لشعره المنفوش النافر وعينيه الغائرتين المظلمتين المكسوتين بالسواد، ووجهه الذي يشبه الباندا، لا يعرف كيف لمح إبليس يتردد كفلاش أمامه، تضئ صورته في رأسه ما بين المرآة ونفسه!

يلبس في عنقه سلسله فضية ضخمة الحلقات، يختار قميصه الأسود ليرتديه علي بنطال أشد سواداً، تمتد يده في بطء لمساحيق التجميل الخاصة بزوجته الراحلة، استكمل تسويد عينيه أحاطهما بقلم الكحل، صنع به هالة من السواد حتى اتصلت بحاجبيه، يضحك ضحكات هستيرية لتظهر أسنانه المتكسرة السوداء، وتزيد من اتساع فمه، يأتي بمثبت الشعر، يصنع قرنين لتكتمل الصورة المرسومة في ذهنه، يقفز وهو يضحك لاكتمال الصورة، ظل يُقَبِح وجهه بالمساحيق ليكون كما يريد.

يركب سيارته، يضغط على زر تشغيل مذياع السيارة، تنبعث موسيقى “الهارد روك”، تتعطل جميع حواسه بسبب الصخب الذي تُحدثه الموسيقى، ينسحق عقله فيقفز على هذا الصخب قفزات راقصة، يتجه إلي محل نظارات، يشتري عدسات بيضاء لاصقة، ينظر في المرآة، يضحك، – تستفز ضحكاته صاحب المحل، فيرجمه ببعض الشتائم-

نظرات كثيرة تلاحقه: يقول بصوت عالٍ من نافذة السيارة: ” لا تصنفونى، فأنا أعيش في عوالم سحرية لا علاقة لكم بها، أنا مُتَفَرِّدٌ، مُتَفَرِّدٌ بكَآبَتي، مُتَفَرِّدٌ في ذاتى، فهل هناك قانون يُجرِّم ذلك؟!”

معركة ضارية تحتدم داخل عقله، يزيد من سرعته، من قهقهاته يصطدم بحاوية قمامة معدنية يتحطم الزجاج الأمامي للسيارة، تقذفه الصدمة داخل الحاوية.

ترجمةُ الصمت

كان الليلُ بمثابة سويعات قلقة متمهلة، يَتَحِدُ فيه الظلام مع صمتي المختنق، تتهافت الرؤى على عقلي المهزوم، تتماهى الصور في عيني المغمضة، تناديني أصوات لا أعرف كنهها، أنهض لكسر مشاعر سلبية تنتابني، تصفّد أفكاري، أجمع بعض وريقات، كنت شرعتُ بكتابة روايتي الأولى عليها، بقلم كسرته أحداث العمل والمتغيرات اليومية وضغوط الحياة، شعور غريب يتملكني، كل شيء يمر أمامي كأنه لا شيء، تصيبني العدمية، وكأن ضجيج الحياة سكن فجأة، مررتُ بعيني علي سطور روايتي، لم أرَ الحروف وكأنها اختفت خلف السكون، لم أشعر بمرور الوقت إلا حينما نضجت الشمس وأرسلت بعض أشعتها لتسقط على أوراقي المرهقة، دفنتها في درج اعتدت إغلاقه على أسراري.

 بقدم متخاذلة أنتعل يومي الذي لم تصبه أي محفزات، وجوه تصدمني بملامحها الممسوحة، بَسَمَات تشبه البكاء، أجساد منحنية مترنحة أثملها التعب، أشاركهم الابتسام، ابتسامتي تتسع، أضحك بصوت خفيض، تضيع منى الفرامل فتنطلق ضحكات هستيرية من جوفي المصدوم، ينهار جسدي النحيل، تنسكب أعضائه على رصيف منسيّ، أتلفت حولي، أرى جحافل البشر تسير في جنون.

 تدوسني أقدامهم وكأنني لا شيء..

يبدو أن الصمت جعلني بالفعل لا شيء.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s