اللوحة: الفنان الإنجليزي روبرت ألكسندر هيلينجفورد (معركة واترلو)
تتناول هذه الدراسة – التي تنشر على أجزاء – استثمار محمد علي باشا للقمح إبان أزمة الحصار القاري النابوليوني من أجل تحقيق «الاستقلال بمصر»، ويتوقف الكاتب في مقالته الأخيرة عند سقوط الإمبراطورية الفرنسية بعد معركة واترلو عام 1815، وتراجع صادرات الحبوب، بعد أن حقق محمد علي باشا أهدافه من خلال استغلاله لأزمة الحصار القاري وتناقض المصالح الدولية، والتحكم بصادرات القمح المصري، الأمر الذي حقق له وفرة مادية مكنته من تدشين أسطول بحري في البحر اﻷحمر وتكوين جيش نظامي كبير، والإنفاق على حروبه ضد المماليك في الداخل والوهابيين في الجزيرة العربية، وهو ما مكنه فيما بعد من تحقيق أهدافه السياسية في الاستقلال والتحديث.
شهد عام 1812 هزيمة الجيش الفرنسى عند أبواب موسكو، وتلتها كارثة الانسحاب خلال فصل الشتاء القارس؛ حيث فقد نابوليون معظم جيشه، ووقعت عدة هزائم عسكرية انتهت بسقوط اﻹمبراطورية الفرنسية فى واترلو عام 1815، لينتهي معها الحصار القاري، ويعود السلام ﻷوروبا ولطرق التجارة والملاحة الدولية. وتغيرت أشياء كثيرة فى أوروبا، كان من بينها ما أصاب سوق تجارة الحبوب والدقيق.
تراجع صادرات الحبوب باﻹسكندرية بعد معركة واترلو ١٨١٥
ومثلما كانت ﻷزمة الحصار القاري أثرها الملموس فى رواج مبيعات الحبوب والدقيق، فإن انتهاءها ترك آثاره سريعًا، ليس على مستوى المستهلكين الأوروبيين فحسب؛ وإنما كذلك على أرباب التجارة فى منافذ التصدير، ومن ثم بدا متوقعًا أن تتقلص حركة صادرات الحبوب باﻹسكندرية: فالسلام وانتهاء الحصار وتسريح اﻵﻻف من الجنود، وعودة فتح البحر اﻷسود واستئناف حركة التجارة بين بريطانيا وروسيا، المصدرة ﻷجود أنواع القمح وأرخصها سعرًا – كل ذلك أدى إلى انخفاض قوة الطلب على القمح المصرى ومن ثم تراجع صادراته خلال صيف 1813.
بيد أن ذلك لم يكن يعني توقف حركة تجارة الحبوب بين اﻹسكندرية ومالطة والموانئ الأوروبية تماما، وإنما تقلص نشاطها بالتدريج، وصاحبها انخفاض تدريجي للمنحنيات السعرية، ومن ثم لعائدات هذه التجارة: ففى تقرير مؤرخ فى 8 سبتمبر 1813يسجل دروفتي ملاحظته على تراجع حركة الصادرات مع جزيرة مالطة، لكنه يشير فى الوقت نفسه إلى وجود طلبات مقدمة لشراء الحبوب، بيد أن المضاربين طلبوا من محمد على تخفيض اﻷسعار ورسوم التصدير، لتحفيزهم على الشراء منه. وتبين التقارير القنصلية اﻻستجابة السريعة لمحمد على؛ بتخفيضه سعر اﻷردب من 90 إلى 80 فرنك، وفى نهاية 1813 واصل تخفيض سعر اﻷردب بدرجة ملحوظة، حتى ليصل إلى ما يعادل ثلثي معدل سعره السابق الذى كان يتشبث به من قبل.
انخفاض أسعار القمح
والواقع أن استمرار اﻹنجليز فى شراء القمح المصرى، بين نهاية عام 1813 ومنتصف عام 1814؛ كان راجعًا لسرعة إيقاع اﻷحداث العسكرية الجسيمة آنذاك، وتزايد نشاط القرصنة الفرنسية فى شمال المتوسط، فضلا عن عدم الاطمئنان بعد ﻹمكانية استعادة التبادل التجاري الطبيعي مع الموانئ اﻷوروبية نظرا لطول فترة الحرب لأكثر من سبع سنوات متتالية. وعلى ذلك فقد ظل التوجس والحذر مستمرين حتى سقوط نابوليون النهائى فى واترلو (فى 18 يونيو 1815). وإذًا فإن حالة الحذر والتحسب دفعا ببريطانيا إلى مواصلة شرائها للقمح، وإلى الحفاظ على احتياطيها اﻻستراتيجي في مخازن السفن القريبة من ساحات الحرب؛ ومن هنا حين بدت هزائم الجيش الفرنسى تتوالى وتنذر بقرب انتهاء النظام القاري، وجد البريطانيون لديهم وفرة غير عادية من شحنات القمح؛ الأمر الذى انعكس على تراجعهم عن شرائه، وهذا أدى بدوره إلى حدوث انخفاض ملحوظ فى أسعار الحبوب وحركة صادراتها.
ولم تعد التقارير الفرنسية تتضمن إشاراتها المعتادة إلى ورود السفن التجارية من مالطة، وما تذكره فى هذا الصدد يتعلق بالسفن التى عملت لحساب الباشا، والتى كان يحاول من خلالها بيع ما يمكنه من الحبوب فى مالطة، حتى بأسعار منخفضة جدًا؛ نظرًا لشدة حاجته للسلع اﻷوروبية الكولونيالية التى وسع من دائرة الطلب عليها. وبعد أكثر من شهرين على هزيمة نابوليون ونفيه إلى جزيرة ألبا، وصلت أنباء انهيار الحصار القاري وحلول السلام فى أوروبا، وتم اﻻحتفال باﻹسكندرية بهذه المناسبة، والملفت أن حكومة الباشا شاركت فيه؛ برفعها العلم الأبيض على قلعة قايتباي، وإطلاق المدافع من القلعة، تمامًا كما فعلت السفن اﻹنجليزية وسفن الحلفاء داخل ميناء اﻹسكندرية.
وبصرف النظر عما ترمز إليه هذه المشاركة (شبه الرسمية) من دلالة سياسية تشير إلى ارتياح الباشا من مشاريع نابوليون الإمبريالية المزعجة، وخاصة قبل وﻻية مصر، فإن ما يهمنا هنا أنها ترمز إلى النهاية الفعلية للظرف الذى هيأ المجال، على نحو غير مسبوق، لرواج تجارة الحبوب المصرية؛ ومن ثم فنهاية نابوليون كحدث سياسى تظل ترمز أيضًا إلى ما هو اقتصادي؛ حيث خفتت الحركة التجارية بين اﻹسكندرية ومالطة بصورة ملحوظة، وخاصة بعد صدور “قوانين الغلال” Corn Laws (الصادرة فى عام 1815) التى بمقتضاها فرضت الحكومة البريطانية رسومًا حمائية تستهدف دعم أسعار القمح المحلى البريطاني ضد المنافسة اﻷجنبية، هذا فضلاً عما خلقته سنوات الحرب الطويلة من مشكلات اقتصادية غير عادية فى جميع أنحاء أوروبا، تسببت فى إفقار اﻷسواق القارية؛ لتنخفض حركة التبادﻻت التجارية بين انجلترا والقارة الأوربية بين عامى 1815 و1820.
وهكذا لم يكن بوسع محمد على، فى السنوات التالية لـ “واترلو”، اﻻستمرار فى بيع حبوبه فى اﻷسواق اﻷوروبية، باستثناء الفترات التى أُصِيبت فيها أوروبا بكوارث الأزمات الغذائية الشديدة على نحو ما حدث فى عامى 1816 و1817؛ وبذلك لم تعد هناك تجارة حبوب منتظمة ورائجة بين اﻹسكندرية ومالطة والموانئ اﻷوروبية اﻷخرى مقارنة بما كانت عليه زمن الحصار القاري. ومن ثم تراجعت نسبيًا اﻷرباح التى كان يجنيها محمد علي من هذا المصدر الخارجي، مما دفعه إلى تركيز اهتمامه، فى مرحلة ما بعد واترلو، على ترتيب موارده فى الداخل والبحث عن مصادر جديدة للإيرادات.
بيد أنه من الصحيح كذلك أنه والى أمر الواردات اهتمامه، فبقدر تحقيقه السيطرة الاحتكارية على الصادرات، راح يرسل وكلاءه إلى الموانئ الأوروبية لإحكام قبضته على تجارة الواردات، مما يبين إلى أى مدى دشن محمد على مركزيته فى إدارة شئون الاقتصاد المصرى منذ تلك الفترة المبكرة والتعامل مع كل متغيراتها بما يخدم مصالح مشروعه السياسى.
نجاح استراتيجية محمد علي
قد لعب القمح المصرى دورًا حيويًا فى تطورات أزمة الحصار القاري، بفضل تمكن محمد علي باشا من فتح خط ملاحي بين اﻹسكندرية ومالطة وموانىء غربي المتوسط، وذلك على الرغم من قوانين الحظر السلطانى التي حاولت حصر مبيعات القمح فى إطار الإمبراطورية العثمانية، وأيضًا برغم اعتراضات الخارجية الفرنسية التى وجدت فى إمدادات القمح المصرى للجيوش اﻹنجليزية أكبر تحد لسياستها؛ حيث دعم محمد علي غريمتها اللدود على مواصلة الحرب إلى نهايتها، لتنتهي بهزيمة نابوليون، وتحطم سياسة الحصار القاري، ومن ثم ساهمت – ودون مبالغة – سياسة محمد على فى تصدير القمح فى تغير مسار التاريخ الأوروبي الحديث.
وتبقى الدﻻلة ذات المغزى هنا أن القمح المصرى كان داخل المعادلة الصعبة ولم يكن على هامشها، وأن محمد علي رفض أن يكون دُمية تحركها اﻷهواء والمصالح المتناقضة للقوى الكبرى المتربصة بمصر؛ وأن مصالحه المركانتيلية الخاصة كانت أساس كل تعاملاته مع الجميع، كما كانت هذه المرحلة بمثابة تجربة ثرية، اختبر من خلالها مدى إمكانية الخروج من دائرة التبعية للسلطان، والتأكيد على نزعته الاستقلالية التي ظلت تتزايد على مدار السنوات التالية. وعلى ذلك فإننا نعتقد بأن المرحلة المبكرة من حكمه تمثل مفتاحًا لفهم لب توجهه السياسي الذي تبلور حول مساعيه الحثيثة نحو تحقيق مشروع استقلاله بولاية مصر.
وصحيح أن محمد على ما كان له أن يمضي بنجاح فى تحقيق أقصى مراميه المادية من وراء استغلال أزمة الحصار القاري، لولا تناقض المصالح الدولية، وتعقد ظروف اﻷزمة بتعطل منافذ صادرات القمح الرئيسة، فى كل من روسيا والوﻻيات المتحدة اﻷمريكية، إﻻ أن عمق اﻻستراتيجية التى طبقها فى تعاملاته مع جميع اﻷطراف المتناقضة، وواقعيته السياسية فى التعامل مع كل المتغيرات التى أفرزتها اﻷزمة، هى التي أكسبته القدرة على تطويع ظروف أزمة الحصار القاري فيما يخدم مصالحه الخاصة دون الوقوع فى شرك صراعاتها المدوية.
وكانت الوفرة المادية الهائلة التى جناها خلال السنوات السبع للأزمة، قد مكنته من تدعيم نفوذه فى مصر فى الفترة التالية: فجزء من فوائض تجارة القمح غطت نفقات حروبه ضد المماليك بالصعيد، وضد الوهابيين بشبه الجزيرة العربية، كما تمكن من تحصين استحكامات اﻹسكندرية، وبناء سور كبير على محيطها، وفى تدشين النواة اﻷولى ﻷسطوله البحري بالبحر اﻷحمر، وفى تكوين جيش نظامي كبير، وكل ذلك أعاق – بالفعل – المشاريع اﻹمبريالية الأولى التى كانت تُخطط ﻹعادة احتلال مصر ووقوعها تحت نفوذ قوة أوروبية خلال العقدين الأولين من القرن التاسع عشر. كما أن نجاح سياسته فى تصدير القمح في تلك الظروف الصعبة، كانت وراء سياسته فى ممارسة الاحتكار بشكل أوسع ومنظم ابتداء من عام 1816. وهكذا فإن الفترة المبكرة من حكم محمد علي تحتاج بالفعل إلى إعادة النظر فى تقييم مردودها ونتائجها البعيدة، ومن حيث صلتها بمجريات الأحداث والتطورات التالية.
المقالات السابقة
- القمح ومشروع الاستقلال عند محمد علي باشا
- تفرد محمد علي بتجارة الحبوب وطلبه من الباب العالي إعلان مصر «سربست»
- محمد علي في مقايضة غير معلنة.. حرب الحجاز مقابل تصدير الحبوب إلى الإنجليز
- مستغلاً الحصار القاري النابوليوني.. محمد علي يتحكم بتوريد الحبوب إلى أوروبا