وليد الزهيري
اللوحة: الفنان النمساوي غوستاف كليمنت
ارتدت فستانها الأبيض السوارية الضيق والملامس طوله لحذائها؛ احتفالًا بعيد زفافها الأول، نظرت في المرآة متمايلة واضعة يدها على خصرها حيث وضع يده ليلة عرسهما وهو يراقصها، أغمضت عينيها مستذكرة أنامله حيث كانت.. سمحت فتحة الفستان الممتدة بطول ساقها اليسرى بخطوات رشيقة نحو مقعدها الوثير أمام مرآتها.
وزَّعت الكريم على بشرتها بابتسامة ماكرة، برقت عندما تذكرت أنفاسه اللافحة لوجنتيها وهو يراقصها، حينما نأت بخدها عن أنفاسه متجنبة أعين الراصدين في الصفوف الأولى لحفل زفافهما، جذبت نفسًا عميقًا عائدة لمكياجها، واضعة ظلالًا حول عينيها، متجنبة النظر للسهام المنطلقة من أعينه وأنامله تداعب خصرها، استشعرت قبلاته المتطايرة تلامس شفتها المرتعشة وهي تضع أحمر الشفاة، فتحت علبة مجوهراتها، علَّقت قرط ليلة زفافها في أذنها حيث لمسها ثغره وهو يدنو منها همسًا:
ـ بحبك.
مالت برأسها على كتفه غير متمالكة لأعصابها متشبثة به، بادلته الهمس:
ـ أربع سنين (كونسيرفتوار) وأنا هموت عليك.
دنا برأسه حانيًا على شعرها:
ـ سندويتشات الروزبيف.. تشهد على حبك.
طوقت رقبته بيديها، وغزت أناملها شعره:
ـ صعبت علي.. مقطوع من شجرة لا أب ولا أم.
كتم ضحكته:
ـ يا مجرمة.
انتبهت على ثلاث نقرات على باب حجرتها، لمحتها بطرف عينها تتقدم نحوها بخطى متأدبة، وضعت أمامها بطاقات الورود بجوار زجاجة عطرها:
ـ الورد يا ست هانم.
استدارت مغادرة مغلقة الباب خلفها، قرأت أولى البطاقات “خالص شكري وتقديري.. بعدد الدقات الصادرة عن قلب أمي.. مودتي”، نبتت ابتسامة صغيرة على شفتيها وهي تقرأ البطاقة الثانية “إليك.. خالص عرفاني بجميلك الآسر”، أسدلت جفنيها ثم فتحتهما وهي تقرأ الثالثة “لولاك ما رأيت غدًا مشرقًا.. محبتي لصاحبة الروح الجميلة”، تابعت قراءتها وهي تحركها بطرف إصبعها الأصغر واحدًا تلو الآخر، لمحت في يسراها “دبلة زواجها” مستذكرة لحظة نقله الدبلة من يمناها إلى يسراها بعد مراقصته وسط تصفيق المدعوين.
اتسعت شفتاها بابتسامة عريضة حينما تذكرته مجددًا، وهو يشير إلى أحد موظفي الفندق، الذي تقدم نحوهما حاملًا آلتي (الكمان والفلوت)، وضعت هي الكمان على كتفها، ومط شفتيه ملامسًا الفلوت، قدما التحية كعازفين، صفق الحاضرون وارتسمت على شفافهم ابتسامات عريضة، وعزفا (كونشيرتو موزار ـ D Major) كما لم يعزفاه من قبل في (دار الأوبرا)، تراوغه هربًا على أوتار الكمان، ويلاحقها بأنفاسه المنبعثة من الفلوت.
التهبت القاعة بالمصفقين منتشين بعزفهما الشذي.. شق طريقهما نحو جناحيهما، حملها مطوقة رقبته غائرة في حضنه، لم تستطع أن تنطق عندما شاهدت زهور التيوليب تغمر سريرهما، وضع طرف إبهامه على شفتيها، قائلًا:
ـ الليلة التيوليب.. وبكرة الساحل.
استفاقت على صوت سيارة تقف أمام باب الفيلا، رشت زخات من عطرها الباريسي، أخذت بطاقات الورود، وهبطت من عليائها لاستقبالهن منصتة لهمهماتهن:
ـ الهانم هنا؟
أجابتهم منحنية:
ـ اتفضلوا.
دلفت أمها وصديقاتها إلى البهو بملابسهن السوداء، مستغربة مظهر ابنتها وهي تهبط درجات السلم بساقها المرمرية تظهر وتخبو كلما خطت خطوة، ارتبكت نظرات أمها هربًا من أعين صديقاتها، تجاوزتهن ابنتها بقامتها الباسقة نحو باقات الزهور بالزاوية البعيدة، القابع بينها آلتي (الكمان.. والفلوت)، التفتتْ إلى نظرات أمها الزائغة، لحقتهن بالإجابة على فضولهن:
ـ إنتم فاكرين إنه مات في طريقنا للساحل؟
تباينت ردود أفعالهن، قرأت بطاقات الورود بصوت مسموع ثم أسكنتها في الباقات، والتفتتْ إليهن، مشيرة بكفيها للزهور:
ـ لما اتبرعت بأعضائه.. روحه عاشت في أجسامهم.
تقدمت خطوة وأمسكت (بالكمان) وعينها ترنو إلى (الفلوت) تتنسم أنفاسه.. وعزفت له كونشيرتوD Major).).