اللوحة: الفنان السوري اسماعيل نصرة
كانت أمل ابنة الجيران أول من نبض لها قلبي، كنت انتظرها بعد انتهاء محاضراتها بالجامعة لاختطف دقائق أعبر فيها عن حبي لها الذي أصبح يمنحني أجمل مشاعر وأحاسيس، وكدت أطير في السماء من السعادة عندما أكدت أنها تبادلني الإحساس ذاته، لكن اللقاء كان يمر سريعا إذ كانت تخشى التأخر في العودة إلى بيتها حتى لا يبطش بها شقيقها الأكبر الذي يتولى تربيتها بعد وفاة والدها ويفرض عليها حصارا مشددا.
طالبتني بتأجيل التقدم لخطبتها حتى تنتهي من دراستها، حاولت إقناعها بأن تكمل السنة النهائية بالجامعة بعد الزواج، لكنها جددت تمسكها بالحصول على شهادة تحميها من«مفاجآت في المستقبل».. تعجبت من خوفها من قادم الأيام التي لا يعلم تفاصيلها إلا الله.. ولم اقتنع بوجهة نظرها لأنني لن أسمح لها بالعمل فلست بحاجة إلى راتبها، لكن لم يكن أمامي إلا الانتظار لمدة عام لأظفر بقلبها لأن قلبي معلق بها وعيناي لا ترى سواها وهي فقط من حلمت أن تشاركني أنفاسي.. كنت أعمل في وظيفة حكومية وأقيم في منزل عائلتي، وتوفى والدي وترك لي وأشقائي عدة أفدنة زراعية تحولت إلى أراض أقيم عليها مشروعات عقارية، وخلال أعوام معدودة أصبحنا من الأثرياء.
أنقضي العام بعد إزاحة لياليه الطويلة بصعوبة، وفي عرس جميل تم الزفاف إلى الحبيبة التي اكتشفت فيها خصال جميلة زادت من حبي لها، كما أسرت قلوب أفراد عائلتي بما فيهم أمي التي اضطرت أن ترتدي ثوب القسوة بعد أن تحملت عبء ومسؤولية تربيتي واشقائي بعد وفاة أبي.
مرت أشهر، ثم بدأت أمي تسألني عن موعد قدوم «ولي العهد» وأنها في شوق كبير لأول أحفادها، وأن تأخر حمل زوجتي أصابها بقلق فطالبتني بأن أطلب من شقيقي الأصغر الطبيب بأن يرشح أحد المراكز الصحية المتخصصة للكشف عليها، لكن خشيت أن يتسبب هذا الطلب في جرح لزوجتي التي كانت تضيء حياتي بهجة بحبها وتحتويني بدفئها وحنانها فلم اتحدث معها، لكن أمي رفعت عني هذا الحرج وعلمت أنها تحدثت معها عندما قالت أن شقيقي حدد لها ميعاد مع أحد الأطباء لتعرف أسباب تأخر الإنجاب، طمئنتها بأن ذلك يحدث كثيرا بعدما رأيت للمرة الأولى الحزن في عينيها.
بعد الفحص الدقيق تبين أن زوجتي لا تعانى من أى موانع صحية للإنجاب، فاطمئن قلبي بأن الحمل مجرد وقت، لكن مر عام والحال ذاته، وعادت أمي لتمارس ضغوطها وطالبتني بعرض زوجتي على طبيب آخر، رددت بغضب بأن الفحوصات أكدت أنها سليمة وانصرفت مهموما بين رغبتي في إرضاء أمي ورفضي وضع زوجتي في موقف مهين للمرة الثانية.
رغم صعوبة الموقف وما يمثله من جرح لكبرياء أي رجل، طالبت شقيقي أن يصطحبني للفحص في أحد مراكزالذكورة والعقم كنت أريد ان استريح من عذاب تأنيب الضمير بأنني قد أكون ظالما لزوجتي.. مرت أيام ولم يخبرني شقيقي بنتيجة الفحص وكان يتحجج بأن إنشغاله منعه من الاتصال بصديقه مدير المركز الطبي للحصول على النتيجة فقررت الذهاب في اليوم التالي إلى المركز، ارتعدت فرائصي بينما كانت الموظفة تقلب في الفحوصات بحثاعن اسمي، طالبت أحد الأطباء شرح ما يتضمنه التقرير فقال «المريض عَقيم» في هذه اللحظة تذكرت عبارة زوجتي بأن «المستقبل قد يحمل مفاجآت».
فشلت أن اكفكف دموعي، وكان حزني بأن الفراق سيكون نهاية مؤلمة لحكايتي مع زوجتي التي أعشقها أكبر من ألمي بعدم القدرة على الإنجاب لذا تكتمت على الخبر عدة أشهر لأبحث عن حل لكن لم اتحمل دفن هذا السر الذي يسكن بين ضلوعي، نزعت قناع الأنانية وقررت الانفصال عن أمل فليس لها ذنب في هذا الابتلاء ومن حقها أن تتزوج بآخر لتنجب طفل.. وفي حضور أمي وأشقائي فتحت ظرفا به التقرير الطبي وكشفت لهم عن السر، صرخت أمي وبكي أشقائي، بينما انتفضت زوجتي واحتضنتي توسلت لها ألا تشفق علي وبأنني لن أقبل أن أكون سببا في حرمانها من أن يكون لها طفل.
وسط انهياري أنهيت الموقف العصيب وطالبت الجميع بأن يتركني أبيت ليلتي وحيدا، في الصباح وجدت زوجتي بجواري في مخدعي تقبلني وعلى وجهها البرئ ابتسامتها الجميلة التي لم تفارق وجهها منذ أن رزقني الله بها.. ظلت تداعب خصلات شعري، وطالبتني ألا أقنط من رحمة الله، وقالت أن شقيقي أخبرها بوجود مراكز بالخارج للعلاج وبأنها مستعدة للسفر معي إلى أي مكان بالعالم.. جددت طلبي بأن تفكر جيدا في الانفصال وألا تسقط أسيرة للشفقة، لكنها رفضت أي حديث في هذا الموضوع وطالبت أن نسافر أسبوع إلى أي مدينة ساحلية للاستجمام وتهدئة الأعصاب.. ورغم سعادتي بوفاء زوجتي وبتضحيتها الكبيرة لكن ما كان يبعث الألم في نفسي بأنها قد تندم مستقبلا في وقت لن يجدي فيه الندم.
بدأ المنزل يَغَصُّ بأبناء أشقائي ومع كل مولود جديد كنت أشفق على زوجتي التي تعاني وجع الحرمان من هذه الفرحة.. ثم أصيبت العائلة بصدمة بعد أن أنجبت زوجة شقيقي الأوسط طفلا منغوليا بسبب خلل في جينات الجنين وهو في رحم أمه، عرضت علي زوجتي إقناع شقيقي بأن نتولى تربية هذا الطفل لتخفيف العبء على زوجته التي كانت ترعي طفلين آخرين، رفضت وأحسست أنه ليس من حقي أن أرعى ابن غيري حتى لو كان شقيقي.. لكن زوجتي نقلت رغبتها إلى أمي التي عرضت الفكرة على شقيقي الذي رحب خصوصا أن زوجته كانت تبغض هذا الطفل وطالبته بإيداعه في مصحة متخصصة لعلاج حالته وأنها تخشى ألا ينسجم مع شقيقيه لظروفه الصحية، كما أن وجود الطفل في المنزل ذاته سيسهل عليه رؤيته في أي وقت.
وكأن أمل عثرت على ترياق لطرد سموم الحزن التي عششت في قلبها، لم تكن تفارق الطفل لحظة وكان يبات في حضنها وعمت البهجة البيت، وتعلق بنا الطفل لما وجده من اهتمام وحب وحنان، كان هذا الطفل البرئ هبة من الله لزوجتي التي ضربت نموذجا في الوفاء والعطاء والتضحية، ومكافأة ثمينة على نجاحي في امتحان الصبر.. وللمرة الثانية اتذكر عبارة زوجتي بأن المستقبل قد يحمل مفاجآت ولكنها في هذه المرة كانت أجمل مفاجأة بالعمر مع ملاك منحنا حياة جديدة بعدما تسبب دون أن يدري في السعادة التي فشل في تعوضيها المال.
رائعه ..
إعجابإعجاب