دمية القماش

دمية القماش

حنان عبد القادر

اللوحة: الفنان الألماني هاينريش هيرت

كنا أطفالا نجتمع حول لعبنا الفقيرة، وتمتلئ قلوبنا البريئة بالفرح، نفاخر بعضنا بعضا بدمية صنعناها بأيدينا من خامات بسيطة تشبه حياتنا، نجمع بقايا الأقمشة والأزرار، وبعض أردية بالية لنعيد تصنيعها؛ فتخرج عرائس من خيال، نزين رؤوسها ببعض من خيوط الصوف الملون أو بخصلات من شعرنا، وبذا نكون أمهات وآباء تلك الدمى، نسميها بأجمل ما نحب من أسماء، نسهر عليها، ونرعاها، ولا نقصر في حمايتها والاعتناء بها حتى تكبر، فيخطب كل منا لابنته أو لولده، ونزوجه ونفرح بأطفاله التي نصنعها أيضا بأرواحنا قبل أيدينا.

ذات يوم أتحفني والدي ببعض اللعب البلاستيكية التي ترفعني على رؤوس رفقائي، وكنت كثيرا ما ألح عليه ليشتريها، فكل لعبهم صناعة يدوية، أما أنا فالأمر مختلف، كان أجمل ما اقتنيت منها مجموعة السمكات الملونة، ولكي ألعب بها كنت أملأ أحد الأطسات الكبيرة بالماء لتعوم فيه، ما كان الرفاق يستطيعون الدخول إلى حمام شقتنا الضيق، ليمارسوا معي هوايتي في السباحة مع سمكاتي، وربما ما أحبوا هذا الجانب الجديد من حياتي.

سرقتني تلك الدمى منهم، وأبعدتني عن الأنس بهم واللعب معهم، وفوجئت بعد فترة من الزمن أني وحيدة، الكل يجتمعون في ظل البيوت على جانب الشارع، يفترشون الأرض، ويمارسون حياة الأسرة التي بنوها في خيالهم، يربون الصغار، يطهون ويغسلون، يخرج الآباء جادين للعمل، ليعودوا محملين بالخيرات لأميرات المنازل.

أما أنا، وحدي مبللة بالماء مع سمكاتي، لا أسمع إلا صوت همسي أو أمري لها، وهي لا ترد جوابا، ولا تملك عتابا، تعوم إذا دفعتها، وتموت إذا أردت ذلك، لاتفاعل ولا استجابة حتى ملأ حياتي ملل عظيم، وخيم عليها هم مقيم.

في الليالي الطويلة كنت أحن لدفء الصحبة، وطراوة جسد دميتي القماش، ورائحة القطن المنبعث من حشاياها، تلك التي أهملتها فغطاها التراب حتى كاد يبليها، ذات يوم بحثت عنها، وحيدة، تقبع فوق خزانتي بعيون مرمدة ووجه حزين، تناديني، تستعطفني أن أرحمها من متكئها المهمل، أخذني حنين غريب لاحتضانها، وضعت الكرسي بجوار الخزانة وصعدت إليها، حملتها إلى الطست الكبير لأحممها، ما أجملها من حورية تسبح مع سمكاتي الملونة.

حملتها للشمس، كان رفاقي كعادتهم يلعبون بجوار جدارنا وما إن رأوني معها حتى صاحوا جميعا: راوية؟!، أوحشتينا جميعا، لقد حرمتنا أمك منك طويلا، وتسارعوا إليها، حملوها بين أيديهم يهدهدونها بحنان، فرشوا لها تحت الشمس وكلما جف منها جانب، قلبوها على الآخر، ثم اجتمعوا على تصفيفها وتزيينها حتى استوت دمية من جمال، التفوا حولي يلومون الغياب ويرحبون بالعودة، واختلطت دموع المحبة بأحضان الحنان.

ما أجمل براءتنا!، ما أجمل تعاملنا مع العالم بها!، تلك البراءة التي فقدناها باستغراقنا في ماديات الحياة.

ماذا لو عدنا لبراءتنا؟!، ماذا لو نظرنا داخل أنفسنا واستنطقنا أضواءها البهية التي بثها الله مع الروح فينا؟!، ماذا لو تأملنا ذواتنا لنخرج أجمل مافيها؟!، أكان يزايلنا هم أو يأس أو ضجر؟، أكانت تتعبنا الدنيا بترهاتها؟ إيه أيتها البراءة، كم أحن إليك، وأستعذب أيامك، فهل تعودين؟

21 رأي على “دمية القماش

  1. ما أجمل براءة دميتك كتبت فصغت جانبا جميلا منا جميعا واعدتنا إلى أيام الطفولة الجميلة

    إعجاب

    1. شكرا لمرورك أستاذ محمود.. يالها من أيام ومراتع كنا نحلم فيها بلا حدود.

      إعجاب

  2. الله عليك لا زلت ليومنا هذا احب الدمى، ولا زالت اخيط بعضا منها، لانها رمز للحياة والطيبة براي افضل انواع الدمى ما صنعتة ايدينا.

    إعجاب

    1. الفنانة التشكيلية والأخت والصديقة ليلى ما الله.. وأنا مثلك أعشقها.. جربي كثيرا دمى غيرها فما وجدت أصدق ولا أدفأ منها.. شكرا لمرورك عزيزتي.

      إعجاب

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.