وخمسة

وخمسة

وليد الزهيري

اللوحة: الفنان النرويجي إدفارد مونك

تسلل شعاع شمس الصباح الأخير لهذا العام إلى مخدعه مداعباً جفونه، حاول إزاحته بيده لكنه لم يستجيب، نهض متململاً بعد رنين منبهه في السابعة وخمس دقائق، ذم بنطلون بيجامته الحريرية حول خصره، مسح مرآة الحمام الضبابية بظهر يده، متحققاً ممن يبدو فيها، تحسس لحيته النابتة بأطراف أظافره، تيقن من صوت احتكاكها بأنها تستحق الجز.

أنهى طقوسه الصباحية بالحمام، ارتدى بذلته الصوف الرمادية ذات الخطوط المتقاطعة متدثراً داخلها بجسده النحيل، حمل حقيبة أوراقه من خلف باب حجرته الشاهق في الثامنة وخمس مثلما يفعل منذ زواجه، أطلت عليه بابتسامتها المشرقة وملابسها البيضاء الشفافة بالرغم من برد ديسمبر، جذبت له مقعدًا، ومدت يدها بقطعة توست مغطاة بالزبد والتوت البري، لثمت خده بقبلة صباحية مقدمة إليه قهوته.

ذكرته رائحة القهوة بأمه حينما كانت تجلس مجلسها بجوار أبيه، يلهو بينهما في بهو شقتهم العتيقة، مختبئاً من نظرات أبيه خلف ذلك الجدار الفاصل بين مجلسه والشرفة المطلة على النيل، شاهد على الجدار ساعة (شارلي شابلن) المعلقة على الحائط بدقاتها الدءوبة والتي اشتراها له ابيه لينضبط في مواعيده ومذاكرته.

نبتت على شفتيه ابتسامة وجلة، مستذكراً تعنيف ابيه لتأخره الدائم على موعد مدرسته، فر منه حينها مختبئاً خلف جدار الساعة، مطلاً من ورائه مثلما أطل (شابلن) حذراً من رجل الشرطة في لقطته الشهيرة بفيلمه الصامت “الطفل” ، حينها صدحت ضحكة أبيه، مشيراً إليه بالإسراع إلى مدرسته.

استفاق على دقات الثامنة والنصف، أسرع وفاءً لأبيه، حمل حقيبته مسرعاً نحو الباب، جذبت زهرة توليب بيضاء من المزهرية، ولحقته:

ـ مامي حجزت لنا في مركب نقضي فيها أول راس سنة تعدي على جوازنا واحنا في عرض النيل.

نظر لحقيبة يده ولها، هز رأسه مطمئناً، طوقت رقبته، ضمها بيده الخالية، ناظراً في ساعة يده الحاملة للحقيبة.. مط شفته قائلاً:

ـ بقت وخمسة.

هرول إلى طلب المصعد، لحقته بالتوليب:

ـ خليها جنبك علشان متتأخرش علي.

ركل المصعد، ونزل على السلم، ترك (التوليب) على المقعد المجاور، منطلقاً بسيارته، أعترض طريقه زحام زائد عن الحد، صرخ في السيارات المعترضة طريقه غاضباً:

ـ مستعجل على أيه..  هي السنة الجاية مش هتيجي بكرة؟

وصل مقر شركته العقارية متأخراً، أخرج من حقيبته ملفه المتخم، “التقرير المالي للاجتماع التحضيري لمؤتمر السندات العقارية”، واتجه نحو قاعة الاجتماعات.

اعترض طريقه اثنان من زملائه اللدودين، خاطب أحدهما الآخر:

ـ تشير ساعة جامعة القاهرة إلى العاشرة وخمس دقائق.

احتل مقعده في الاجتماع، مقدماً تقريره لمديره بابتسامه متملقة، وضعه أسفل كافة التقارير متأففاً، تأملهم واحداً تلو الآخر، معيداً كل ملف إلى صاحبه مشيداً بالبعض، وملفتاً انتباه البعض الآخر، إلى أن وصل إلى آخر التقارير، تأمله متمعناً، زينه بعلامة (X) كبيرة.

حدق به مديره حانقاً:

ـ إيه الكلام الفارغ ده، مش كفاية تأخيرك المتكرر، كمان تقريرك كله أخطاء، راجع أرقامك ياأستاذ، ومتسيبش مكتبك النهاردة قبل ما تبعتلي (إيميل) نهائي.

خرج الجميع من حجرة الاجتماع مطأطئي الرؤوس قاطعي الأنفاس، جلس على مكتبه كابتاً غيظه، أغلق هاتفه وحواسه، منكباً على تقريره، توالت الساعات والفناجين.

أعتدل في جلسته متألماً من ظهره بعدما أرسل (الإيميل)، تلفت حوله لم يجد أحداً، أدار محرك سيارته وفتح الراديو، نذيع عليكم نشرة الحادية عشر مساءً، في الساعة الأخيرة لهذا العام أعزائي المستمعين، التفت ناحية التيوليب الموشكة على الذبول.

فتح باب شقته، صرخت زوجته في وجهه:

ـ حرام عليك، شوف كام اتصال بتليفونك.

أغمض عينيه متجهاً ناحية شرفته المطلة على النيل، لمح ساعة (شابلن) تشير إلى الثانية عشرة ليلاً وخمس دقائق.

ملأ صدره بهواء عامه الجديد، نزع عنه سترته الرمادية، نافضاً أعباء عامه المنصرم، أطل من خلف الجدار المعلق عليه الساعة، نظر إليها بنفس نظرات شابلن مبتسماً، بادلته الابتسامة، أعاد عقارب الساعة خمس دقائق للخلف.. مستعيداً زمنه.

رأي واحد على “وخمسة

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s