هدى حجاجي
اللوحة: الفنان السوري جوان خلف
وطرحت كل الأشياء عن مخيلتي حتى تكون بعيدا عن الظلال الرمادية.. وتقول صاحبة القصة إنها إمراة متزوجة تخلت عن عاداتها القديمة فلم أعد تلك الفتاة اللامبالية فقد منحنى زوجى ثقته ولن أخون تلك الثقة.. تغيرت كثيرا خلال الشهور القليلة انتهى عهد الشعر المشعث والظلال الخضراء.. والزرقاء والسوداء حول العينين.. والملابس الضيقة والقصيرة.. كنت فتاة مهملة تنام فى أي وقت وتستيقظ فى أي وقت وتأكل في أي وقت، وبفضل زوجي لم يعد لهذه العادات وجود ولأول مرة منذ أن تزوجنا أخذنى إجازة وذهبنا إلى بيت والده الذى كان يطل على إحدى البحيرات، وقد ورث زوجي عن أبيه هذا البيت وقررنا أن يحدث به بعض الإصلاحات وكان العمل كثيرا.. لكنه كان مسليا وكنت مستعدة، وأخذت شريطا وجمعت شعري المسترسل ومريلة تحمي ثوبي من الاتساخ وعندما عاد زوجي من عمله – قال لي هيا سريعا حتى نتناول وجبة الغداء الجو بديع بالخارج وقدمت لزوجي الطعام وقبلني مكافأة على تقدمي في الطهى ثم خرج وكنا نعيش فى بلدة صغيرة بجانب هذه المدينة وكان زوجي في الثلاثين من عمره ويشغل مركزا فى مصنع للمستحضرات الكيميائية، وكان له رصيد فى البنك لا بأس به ولذلك كنا نحلم بأن نستطيع فى المستقبل القريب شراء شقة أكبر لصغارنا عندما يشرفوا على الحياة وفتحت دولاب الملابس فى الحجرة الصغيرة ووجدت حقيبتين قديمتين لم أشك أنهما لزوجي وفتحتهما لأرى ماذا إذا كانتا تحتويان على أشياء صالحة للاستعمال لم أجد سوى قمصين مستعملين وبنطلون وحافظة سوداء – فتحت حافظة النقود ليس عن فضول ولكن بحثا عن نقود منسية كما يحدث كثيرا ويكون للمفاجئة وقعا جميلا ولم أجد نقودا فقط صورة امراة شقراء ذات عينين واسعتين وتأملتها بإمعان وفجأة لم أشعر بارتياح.. كان في عينيها الجميلتين.. نظرة قاسية غريبة ولم يكن جمالها جذابا ومريحا وأعدت الصورة إلى مكانها في الحافظة وأرجعت الحقيبتين إلي الدولاب وقبل أن أواصل عملي ألقيت نظرة على نفسى فى المرآة وكأنى كنت أقارن بينى وبينها ولم أكن جميلة إلى هذا الحد ..لكن زوجى اختارنى بعين حب وألقيت بنفسى بين ذراعيه واعترفت له بكل شئ عن الماضى وقررنا أن ننساه إلى الأبد فالحاضر هو المهم وكان أفضل من خطيبى السابق الذي كان يحاول دائما خيانتى مع إحدى جاراتنا– وعندما قدم قررت ألا أحدثه عن الصورة ما كان لي أن أحاسبه عن مغامرات الماضى ومضى بنا الوقت بعد عودتنا من الإجازة الصيفية أسبوعا أو أسبوعان وذات صباح ارتفع رنين الهاتف ورفعت السماعة فإذا به خطيبى السابق يقول لى أهلا كيف حالك لماذا غيرتى رقم هاتفك وما كدت أسمع الصوت حتى أصابنى الارتباك والقلق معا لمدة أو للحظة رهيبة وقال يبدو أنك قد غيرتى عنوانك أن صديقتك القديمة هي من أخبرتنى بذلك وهي التى أعطت لي رقم الهاتف..ل م يسرنى قط سماع ذلك الصوت الذي كان فيما مضى يهزنى بعنف فلم أعد تلك الفتاة التي عرفتها.. وعاد يقول منذ مدة انقطعت عن الشلة يقصد عن أصدقائنا ماذا حدث وبذلت جهدا ليخرج صوتى طبيعيا وقلت: لأننى تزوجت وساد الصمت، أعتقد أن (هانى) لم يصدق ما سمعه، وأخيرا قال: أنت تسخرين مني، قلت: هذا ليس صحيحا ولتعرف أن كل شيئا بيننا انتهي وأرجوك ألا تتصل بي ثانية، إذا تقابلنا مصادفة في الطريق فإنني لا أريد أن أتذكر الماضي وتلك الأيام العصيبة التي عشتها ووضعت السماعة وظللت برهة أعاني ضيقا لقد ظننت فترة أننى أحبه ولكن الحقيقة لم تكن عواطفي نحوه جادة ومستقرة ولم تكن تهدف إلى الإستمرار، وكل منا كان يدرك هذه الحقيقة، وقررت أن أتجاهل تلك المكالمة التلفونية ومضى الصيف سريعا كنا نذهب أحيانا الى بيت والد زوجى الذى يطل على احدى الشواطئ وكنا أحيانا نصطحب معنا بعض أصدقائنا المتزوجين وقد انسجمت تماما مع زوجى وزاد وزني خمسة كيلو جرامات وسر زوجي بذلك كثيرا. وحل الخريف ثم الشتاء فلم يعد بإمكاننا الذهاب إلى البحر وبدأت أحلم بإنجاب طفل وذات صباح نهضت مبكرا من النوم ووجدت لدي وقتا قبل إعداد الفطور فأخذت أتصفح جرائد الأمس تسمر بصري.. عند صورة منشورة فى صفحة الحوادث أو فى الصفحة الأولى وعرفت صاحبتها فى الحال.. هي نفسها تلك التي وجدت صورتها فى الحافظة القديمة الخاصة بزوجى وقرأت المقال كانت الفتاة فى الخامسة والعشرين من عمرها وقد عثر عليها رجال الشرطة فى إحدى الأماكن المهجورة غارقة فى دمائها وكانت بها آثار ضرب واعتداء ونقلت إلى المشرحة وبدأت التحقيقات تأخذ مجراها فى هذه الجريمة الغامضة والدوافع المحيطة بقتلها.. فطرحت كل شيئ أرضا.
ان قصة الاديبة هدى حجاجى (وتركت كل الاشياء) صياغة بديعة لرجل وامرة اقترنا سويا متحابين الا ان ماضيا لكل منهما يطل على كل منهما فامراة وجدت مقتولة كان يعرفها تطل عليه وخطيب سابق يطل عليها وتترك حجاجى كل الاجابات بيد القارئ يصيغها كما يشاء فكانت قصة مكثفة بغير حشو كما انها جاءة كاملة تامة بغير نقص….
إعجابإعجاب