مصطفى البلكي
اللوحة: الفنان السوري طلال معلا
يبدو الأفق المحدق به كسجن لا صوت فيه، يستدير ويلقي نظرة على بيوت البلدة البعيدة تظهر له متلاصقة كتلة واحدة من سواد متشابك.
يقرر الهروب من المنظر ومن الحر الخانق إلى النهر، يعتلي تلاً مرتفعا، يري صفحة النهر تلمع تحت ضوء القمر الخافت، يغمض عينيه، يتخيل جسده ملقي بين أمواجه الهادئة، تدغدغ جسده المكدود، تخلصه من كل أدران اليوم.
الفكرة كثيراً ما راودته، لكنه كان يبعدها، على أساس أن للنهار عيونا أما الليل فهو صادم في سكونه.
يهز رأسه، يبعد الخوف الذي يفتح في نفسه ثقباً لينفذ منه إليه وينظر، فإذا صفحة المياه كأنها جسد أنثي تطلبه، تفتح له صدرها المتحرر، وكذلك فخذيها، يمص ريقه، يفارق التل، ويتقدم.
يصل إلى الشاطئ، يخلع قميصه وسرواله المهترئ.
يمضي جسده مع الموج، فإذا ابتعد، حجم نفسه وعاد ليكون بالقرب من الشاطئ، وسط نشوته، يتناهى إلى سمعه صهيل خيل، يرفع رأسه، يلمح سرواله وقميصه على عصا.. يستشعر من نظراتهم التي تطالبه بالخروج الشر، يتلكأ في تنفيذ الأمر، فيستفزهم وهم يتبادلون حوارا صامتا، سرعان ما يتحول إلى همهمات، تؤدي إلى تمزيق السروال والقميص، فتذهب بلا رجعة دغدغة مرح كانت تسكن جسده، ويعانق بأذنه انفلات صبر أحدهم، يأمره:
ـ اطلع يا ولد!
يخرج وهو يداري عورته الأمامية بيديه، تهيج الأفواه وتدخل في حلبة الضحك الصاخب، وسطهم يلف بجسد تملكته الرعشة، كنحلة رميت بدوبارة، فراحت تلف وتزن، وتزن وتلف.. في إحدى الحركات تلقي جسده ركلة من أحدهم، فاختل توازنه، فوقع على بطنه، فارتفعت ضحكاتهم، فتحامل ولف بجسد يرتجف، واجههم، فاكتشف ما يقررون فعله، وغاب.
أصبح الأفق محتقناً بالبوم الناعق، وبدت المساحة المحدقة به مكتظة بالنائحات وهن يرددن عديدا منغما، كان يسمعه في صغره فكان يحسبه همهمات، لم يكن يميز بين كلمة وأختها.
” واللي جري لي ما أقول لحد عليه “
يتذكر، ويدخل في وصلة من النشيج المتقطع، وبألم يضرب الأرض براحتي يديه وهما مفرودتان، وظهره العاري ومؤخرته الملوثة بدمه لا يشعر بهما، يزداد ضربه للأرض ويحاول أن يصرخ، فلا يطاوعه لسانه، فقط حشرجات تخرج، لا تحمل أي كلمة، أثناء الضرب لا يستطيع النظر إلى يديه، لأنهما لم يقوما بما يجب عمله، فكل ما قاما به لا يخرج عما يفعله الصغار في شجارهم، بعض خدوش بسيطة لا تفلح في” شخب” الدم.
يكف عن ضرب الأرض، ويلوم نفسه لأنه لم يعودهما على حمل الهراوات ولا الفئوس.
في وضع سكونه، يصل لأذنيه همس أقدام تمشي على مهل، يحرك رأسه، يلمح بالقرب منه ذئباً يلهث، يقرأ في عينيه نذر الغدر، فلا يجزع، ويطالبه بالانقضاض عليه ويعده بعدم المقاومة، ويتأسف له لأنه سيأكل لحمه النجس.
الذئب لم يتقدم، اكتفي بأن نفض جسده، فطرد الماء الملتصق به، وهز ذيله ومضي. يضحك، ويقول:
“فرطت في السلاح، يوم أن قالوا لك لم نخلق للسلاح، بل خلقنا للزرع والقلع، نضرب فنقول المسامح كريم، منذ الصغر وهم يقولون، وأنت قنعت، واليوم أكلتك الكلاب، نهشت لحمك، ودكت عظامك، فلا ضرر من نهش الأفواه لسيرتك إذا ما طلع النهار، وكشف نوره الفاضح عن جسدك المشلول هنا بجوار الشاطئ”.
يصل لتلك الجملة فينتفض جسده، نفضة تشبه نفضة خروج الروح، فيكبش في الأرض، ويدفع جسده، فيتحرك حركة لا تبين ولا تصلح للوصول إلى بيته، فيقرر دحرجته، فيدور كمدور الساقية، بين لفة وأخري يُغرز فيه سن شوكة، أو يؤلمه الحصى الكبير، لا يهتم، فقط يردد ” انتهي زمن الألم”.
يصل إلى باب البيت، يدفع جسده بقوة، فتفتح “السدة” ويدخل، يرسل عينيه إلى شق في جدار، يلمح اليد الخشبية، يسحبها فتخرج من مكمنها، يعانق نصلها الحاد، ويغمض عينيه، بعد أن حدد مكان القلب.