اللوحة: الفنان الأميركي إدوارد هوبر
“إذا كنت (الأنا) كله، فهو أن أكون الآخرين كلهم، أو لاشئ“
(ميجيل دي أونامونو)
كان صباحًا مرعبًا عندما بدأت أنقط وجودي
وعند الظهيرة صرت امرأة جوفاء
تلك هى مصيبة المرء في وجوده.. الخواء
أساس نمو الفرد وتطوره ونضجه يكمن فى فكرة الامتلاء، تبدأ هذه الفكرة فى التحقق منذ مولده، فكما يحتاج الإنسان إلى الغذاء البيولوجى من لبن وطعام وفيتامينات مختلفة يحتاج أيضا إلى الغذاء النفسي، ولا يتم الإشباع ـ مطلقًا ـ إلا إذا حدثت عملية الهضم والتمثُّل، وكما يحدث في عملية التمثيل الغذائي من تحول الماء والطعام إلى لحم ودم وأعصاب، يحدث ـ أيضًا ـ في التمثيل الغذائي النفسي.. إن الإنسان الذي امتلأ، هو الذي تغذى على موجودات العالم بلا شروط : الأهل، الجيران، الأصدقاء، وحتى الأشياء والطبيعة من شجر وحيوان وطير إلخ. حينما نكون قادرين على تمثل كل معطيات الوجود من حولنا، وبلا شروط نمليها عليه، عندئذ فقط، نشعر بالامتلاْء، ويصبح وجودنا ثقيلًا وراسخًا.
الطبيعة عنصر هام في ذلك الامتلاء ولأن الانسان ليس موجودًا للتلقي فقط، فهو لم يُخلق صورة جامدة تُلقىَ عليها ألوان الكون.. بل فاعلًا فى كل ذلك. يبدأ وجوده بفعل الاكتشاف، ثم يليه ـ بعد ذلك ـ عمليات كثيرة، تنتهي بأن تكون تلك الموجودات داخل أنسجة اللحم والدم والخلايا العصبية.
الذين يضعون شروطا للامتلاء بالمعالم، فيقبلون هذا ويرفضون هذا، يظل وجودهم خفيفا. مثلا: النباتيون، الذين لا يستطيعون أكل اللحوم أو يشعرون بالقرف منها، يظل في وجودهم جزء فارغ، غير مشبع، ربما ننظر إليهم على أنهم كائنات ناصعة، خفيفة كأنها تطير، ربما نفتتن بتلك الرقة لكن هذا لا يلغي أنهم يمضون في الحياة بثقب في وجودهم.
أنا فى العدم يارب، فضع حجرا فى روحي
الثقل.. ذلك الوجود الثقيل الممتلىء.. هو حل معضلة الوجود البشرى.. نعم فالوجود البشرى يكون جرحًا.. إن لم يلتئم بتلك الموجودات مهما كانت موحلة وعفنة و لها روائح كريهة.
السر.. فى القبول، أن يقبل الإنسان ما يأتيه من الحياة دون شروط مسبقة. أشفق على أولئك العائشين على الأرض بشروط.. أن يرتهن وجودي على شرط.. هو المأساة بعينها.
في برنامجي “على ضفاف الحياة” والذي أقدم فيه النماذج الانسانية.. كانت تأتيني مآس كثيرة من هذا النوع، ومن أغرب ما رأيت.. رجلًا له شروط صارمة في بيته، حتى إذا تزحزح شئ من مكانه أقام الدنيا وأقعدها.. ليس هذا فقط.. كان يخشى الروائح بشكل جنوني، كان يدخل الحمام وراء زوجته ليبحث عن الروائح التي خلّفتها.
ليس هناك شرط للوجود الإنساني إلا أن تقبل بجميع شروطه.. في هذه الحلقة كان في استضافتي أحد أساتذة الطب النفسي.. سألته صاحبة الرسالة ماهو الحل لتلك الشخصية (زوجها).. قال: يجب أن يمشي في الشارع كل يوم لمدة ساعة.. في الزحام وبين العربات وعلى الأرض الموحلة أحيانا، هكذا يمكنه هضم العالم وتمثله. ويمتلك القدرة على تحمل الوجود بكل ما فيه من مآس وآلام. يقاس العمر النفسي لدى الإنسان بمدى قدرته على تحمل آلام الفقد.
أرسلت لي امرأة مُسِنة، تحكي عن خواء عنيف أصابها بعد موت زوجها، كنت متعاطفة معها للغاية، أحسست بمشاعرها ـ تمامًا ـ وفهمت أن تلك المرأة واقعة في العدم.. لا أحد مثلي يعرف معنى الشعور بالفقد والذي أدى بي إلى الموت النفسي.
وجاءت الرسالة في صيغة مناجاة، كانت تحادث صورة زوجها المعلقة على الحائط وتبكي: هل أنت حزين عليّ يا عبد الحميد؟.. إذا كنت حزينًا إلى هذه الدرجة، لماذا لا تأخذنى بجانبك صورة تؤنسك؟!
قالت لى ابنتك عندما رأتنى أنظر الى الصورة كثيرًا – إنك تحيا الآن حياة أخرى.. معبأً بأفراح وهموم أخرى.. أما أنا فوحدى، وحدي حتى النهاية.
كانت بداية العمر سيئة ونهايته أيضًا. لم أحي إلا داخل الخمسة عشر عاما التى عشتها معك.
سنتان كاملتا ن وكتل الفراغ المعلقة فى سقف الغرفة تدفع بى خارج البيت كى أهرب من موتك ومن وحدتي.. سنتان كاملتان وعفش البيت ينفض الصمت عن نفسه ويرميه فى وجهي
كل يوم يدخل الليل وأدخل أنا على السرير فأجد روحي تسيل وتندلق منى على الأرض وما زالت كتل الفراغ ترنو إلىّ، ومازلت أنظر إلى الجدار الأصمّ الذى لم يعد يأبه بصورتك.
يبدو أننى انتهيت من موتك لأمتلئ بموتي أنا.
كنت تصورت أن ذهابى إلى الحج سوف يمحو عنى الغبار الذى أتبدد تحته كل ليلة، ولكن لم يحدث..بعد أيام فقط من عودتي.. تسرب النور الذى ملأني هناك وانزلق حضوري المشحون بكائنات غير مرئية وظل الليل متسمرًا فى مكانه.
كل النجوم التى عرفها القلب تسقط ميتة.. أين أنت يا عصفور الجنة؟ أين ذهبت وتركتني مردومة بالصمت الحافل بحياة لم تُعش وأحداث لم تجر أو جرت بالفعل ثم سقطت فى الغياب، نعم الكرسي الخالى من جلستك الآن يا عبد الحميد يصفعني على وجهي، يبصق فى روحي هواءً موجعًا، مثل غازات المغص السامة التى تشد جدار البطن ثم تزحف على القلب لتقلِّص نبضاته وتسحب الأنفاس.. إنه الموت.. هكذا هو الموت..لا.. إننى أموت وحدى.. سوف يتعفن جسدي قبل أن ينفتح باب عليّ.
كنت أصرخ بشدة عندما كسر الجيران الباب على، وحملوني من على الأرض ومددوني على السرير. قال أحدهم: ما الذى أوقعك هكذا؟ فأخذت أزوم وأتشنج.. لم تكن بي قوة للرد عليه، لم تكن لديّ رغبة فى أن أشرح عذابي، كأنما كنت أتقيأ وجودى على حافة السرير.
كانت جارتي وصديقتي التي تقف على رأسي وسط هذا الجمع تفهم أنه ليس بي شيء غير التعب من النظر إلى سقف الغرفة وهذا الشباك الذى لا يذكرني بشيء.. لكنها عندما نطقت وطلبت أن يأتوا لي بالاسعاف.. رعدة أصابتني فأخذت أصرخ:
لا-لا تذهبوا بي الى المستشفى، لاأريد أن أموت في المستشفى مثل عبد الحميد، اتركوني أموت هنا بينكم، لا أريد أن أموت هناك وحدي.
لا أدري.. لماذا ظننت أنني سوف أموت فى تلك الليلة، لماذا أحسست بهذا الهلع من فكرة الموت؟.. ألم تقل لي ابنتك يا عبد الحميد: إن الموت يكتفى بذاته ولا يحتاج لآخر.. فقلت لها : أتمنى أن أصير موتًا؟!!.. إذن.. لماذا ارتعشت وصرخت عندما توهمت أني سأموت !! ألأنه موت قليل المهابة.. موت ضئيل كذبابة سقطت فى كوب الشاي؟.. فلن يخسر العالم شيئا بموتي ولن يظفر بشيء إذا انتظمت الأنفاس وظل قلبي يدق. إنه الغياب فى الحالتين والمسافة الضائعة بين الموت والحياة.
حكاية هذه المرأة هي نموذج دال على الخواء، عدم الامتلاء بالحياة، على الوجود المثقوب لتلك الشخصية، ذلك الوجود الذي تسرب منها بعد فقدها لزوجها لتجد نفسها فارغة تمامًا، ربما يظن البعض أنها معاناة الوحدة، لكن ما نتحدث عنه هنا ليس الوحدة، إنه الشعور بالعدم، ذلك الذي يشعرك أن العالم خواء من حولك ومن داخلك، ذلك المعنى الذي قاله الشاعر: كل هذا الضجيج ولا أحد.
عاشت جدتي سنوات عمرها الأخيرة وحيدة، لكنها لم تشعر أبدًا بوطأة الوحدة، كانت ممتلئة بالحياة، وكنت أحسدها على هذا الوجود المطمئن كلما زرتها. كان لديها ـ دائما ـ شيئا مهما تفعله، لديها طقوسها اليومية، هذه الأمور البسيطة كانت كافية لتملأها بالحياة. فكنكة القهوة بميعاد، التشميس على سطح البيت بميعاد، غسيل المواعين ـ أيضًا ـ بميعاد. لم يكن لديها تليفزيون ومع ذلك كانت تعرف كيف تملأ وقتها، ولاتستلم للفراغ. لم أر في عينيها أبدًا نظرة الاكتئاب التي كنت أعاني منها منذ طفولتي.. كان لديها القدرة على التأمل.. فلطالما رأيتها تحدث نفسها بصوت خافت، تفتش في طبقات المعاني للمواقف التي تمر بها خلال اليوم، تملأ أعماقها بالحياة.
أعرف أن تلك المرأة صاحبة القصة التي قدمتها في البرنامج.. ليس لديها قدرة على التأمل.. المتأملون دائمًا ممتلؤون، وتلك المسكينة الخاوية، المهددة بالعدم تسقط منها المواقف والشخصيات فلا تجد في داخلها شيئًا جديرًا بالتأمل وذلك ما أسميه: (الوجود المثقوب). يرى كثير من المحللين النفسيين أنه بقدر ما يعيش المرء بشكل زاخر وحقيقي، بقدر ما يذهب عنه الخوف من الموت والتهديد بالعدم.
حدثتني تلك المرأة ـ أيضًا ـ عن طيبة زوجها الراحل، وكيف أنه أعطاها الحرية طوال حياتها معه. كان يتركها تذهب أينما شاءت ولا يحاسبها على أي تقصير منزلي بل كان يحمل عنها مسئولية البيت في كثير من الأحيان، حتى في مرضه الأخير والذي لم يدم إلاّ شهرًا واحدًا كان يتركها تحضر أعياد الميلاد وتذهب في رحلات قصيرة مع أهلها، بينما هو راقد وحده بالمستشفى. لم يشكُ يومًا ولم يعاتبها.
أتصور أن ـ هذا بالضبط ـ هو سبب امتلائها بالخواء، فعاشت حياة فارغة مرتعشة، خافت من حمل الهموم وابتعدت عنها وشجعها زوجها على ذلك. تلك هي المأساة، عندما يتصور الزوج أنه كلما حمل الهموم والمسئوليات عن زوجته، وجنبها حمل همه هو شخصياً سواء في مرضه أو غيره، كلما أحبته وامتلأت به، بينما العكس هو الصحيح، إن الإنسان لا يمتلئ من الداخل إلاَّ بمن وبما يحمل همه ويقوم بمسئوليته تجاهه، أما الراحة والدِّعة وتفريغ الحياة من مسئولياتها يترك الإنسان خاويًا، فارغًا، بلا روابط عاطفية بمن يحيا معهم من أشخاص أو حتى جمادات. كانت هذه السيدة تشكو من صمت الأثاث في البيت، من خرس الجدران. حتى عندما تفتح النافذة، لاشيء ينعش ذاكرتها، كأنما تطل على خلاء. كأن حياتها تسربت منها، والمواقف التي عاشتها في هذا البيت، وقعت من ذاكرتها.
يقول معلمي الروحي: إن ما يتبقى في ذاكرتنا دائمًا هو الفعل، ليس هذا فقط، بل إن ما يثري الذاكرة هي المواقف الصعبة، مهما كانت حزينة ومؤلمة، سنتذكرها ـ بعد ذلك ـ بمتعة شديدة، وربما ببعض الزهو بأنفسنا، إننا كنا قادرين على تجاوزها.
لي قريب كان ينتهز أي فرصة للحديث عن تجربته في حرب أكتوبر، كانت عيناه تلمعان بالزهو والحنان وهو يحكي عن زميله المصاب عندما حمله على كتفه أربعين كيلومترًا، وهو يمشي على قدمين متعبتين في الصحراء، حتى وصلا إلى المعسكر. كنت أرى طيف ابتسامة على وجهه وهو يحكي عن أهوال يقشعر لها البدن، ما سر تلك المتعة؟ هل لأنه بتلك الذكرى يلتئم بذاته ويستحضرها؟ ذلك الحضور الذي يعني الونس، يعني الامتلاء. إن فعل التذكر ليس مجرد نوستالجيا ساذجة، بل هو طريقتنا في لملمة تاريخنا وإعادة ترتيب ذواتنا، حتى لانمضي في الحياة فارغين. هكذا كان بطل الحرب هذا، كان يستحضر التجربة بمعاناتها وصخبها، فيخضر هذا القفر الداخلي وينبض بالحياة، فلا يجد العدم مكانا، في نفس المحارب القديم.
خلال كدحي لملء خوائي الداخلي، اكتشفت أنه كان عليَّ الالتحام بذاتي القديمة كي أمتلئ بها ومن ثمَّ أمتلئ بالعالم.. سوف أتناول هذه الفكرة بالتفصيل في فصل (صاحبة الشعلة)
أعود لتلك السيدة التي لم تستطع أن تقيم علاقة حقيقية بالبيت ولا حتى بالزوج الذي لم تشاركه الفعل في أغلب الأحيان، بل لم تشاركه الألم، لماذا لم تشعر هذه المرأة بالفزع والرعب والخواء أثناء حياتها مع هذا الزوج؟ هل كانت هناك علاقة حقيقية معه تملأها وتملأ حياتها؟ أعتقد لا، فالعلاقات الإنسانية الحقيقية لا تنتهي بموت من نحب ولا تتركنا فارغين هكذا، إننا نُعَمَّر من الداخل بهم. ليس معنى أن أباك مات أنه غاب عنك إلى الأبد فهو بداخلك.. هضمتَه وتمثلته وأصبح من كيانك، وهكذا.. كلما كنا قادرين على هضم العالم، يمتلىء وجودنا بالونس. ربما كانت بطلة قصتنا هذه منشغلة بحياتها مع زوجها، ولكنها لم تكن قادرة على هضمها وتمثلها بما يكفي ليمنحها الونس بعد فقده.
هناك فرق كبير بين الانشغال بالحياة وبين امتلاء الذات بها. فالانشغال ـ كما يرى إريك فروم ـ هو طريقة لمعيشة الإنسان مبتعدًا عن نفسه، هاربًا من ذاته.. إنه يحيا من الخارج فقط دون أن تكون له أية علاقة ذاتية بما يعيشه وبمن يعيشون معه، هذا النوع من حياة الانشغال والذي ترسخ له ثقافة عصرنا، ثقافة الواقع الافتراضي التي تبث لنا حياة بديلة من خلال شاشات التلفزيون، الوجبات الجاهزة، الغسالات الأتوماتيكية..ألخ. كل هذه المظاهر التي نظن أنها تمنحنا الراحة والسعادة، هي من أدوات الانشغال بالحياة، تترك الإنسان خاويًا، غريبًا حتى عن نفسه لأنها لا تعطيه الفرصة لعمل علاقة بمعطيات الحياة اليومية، والتعرف عليها عن قرب، فإذا فقدناها يوما، نقف غرباء أمام أنفسنا، مرتعبًين من الحياة بدونها. هكذا حين غاب الزوج وغابت طريقة الحياة التي انشغلت بها وجدت نفسها ـ وجها لوجه ـ أمام ذات غريبة عنها، لا تعرفها فارتعبت، بحثت عن الإحساس بوجودها فلم تجده، حيث لاعلاقة تكونت مع الوجود أصلاً، لا بداخلها ولا مع الواقع الخارجي الذي تعيش فيه. هكذا لم تجد غير الصمت، صمت الأثاث وصمت الجدران والنوافذ.
إننا ـ هنا ـ أمام بناء إنساني فقير، رقت جدرانه مع الزمن، وخفتت الحياة بداخله، فلم يجد من الطاقة الحية ما يشعل به الوجود وينطق الجمادات ويحيي الموتى ويقيمهم داخل نفسه. وها هي صورة زوجها تفقد تأثيرها مع الوقت وتكف عن الحديث معها ولا يتبقى لها شيء تشعر بالألفة تجاهه، فالشعور بالألفة نحو الجمادات والأشياء والذكريات والذات نفسها، هو ما يملأ الوجود الإنساني ويطمئنه، لذلك نراها مهددة، مرتعبة من الموت ومن الحياة ومن أشياء أخرى لا تعرفها.