اللوحة: الفنان الإسباني الإسباني خوان ميرو
يقول معلمي الروحي: “الهم هو الإنقاذ الأساسي للإنسان في مسيرته” بالطبع هو يقصد المسئولية.
أعلم إنك لو أحببت أولادك بلا مسئولية لن يصلهم أبدًا ذلك الحب.
كانت أمي تحبني بلا مسئولية وتتركني أذهب إلى المدرسة بلا ساندوتشات، وعندما أعود إلى البيت لا أجد أي أثر لرائحة طبيخ، كانت امرأة عاملة وليس لديها وقت أو جهد.. هذا ما كان يقال وقتها، لكنني أدرك الآن أنها كانت ذات وجود خفيف ناصع لم يقو على تحمل أعباء الحياة المنزلية ومتطلباتها. كان أبي يعرف ذلك، يشعر بهشاشتها وضعفها، يتساءل وهو يبتسم: لماذا لم يُقدَّر للإنسان أن يأكل أوراق الشجر ويستريح من هذا العبء؟
لقد أحبتني أمي.. كانت تبكي من أجلي إن أصابني بعض المغص ولكنها أحبتني بلا مسئولية. عندما تحب الأمهات أبناءهن بلا مسئولية، لا يصلهم أبداً ذلك الحب، يظل شبحًا يطارد وجودهم.
في قصيدتي (هنا مقعد فقط) كنت أبحث عن إجابة لفراغي الذي عشته سنوات طوال.. قلت لأمي:
أعرف أن المحبة التي منحتها لي..
تدلت كجثة زرقاء على نافذة الغرفة.
محبة ظلت وحيدة على نافذة الغرفة
وظللت أنا وحدي أنظر إليها في صمت
ماذا كان عليَّ أن أفعل في جثة زرقاء
غير أن أخرج من جميع الأبواب وأترك البيت فارغًا
البيوت مفزعة يا أمي
جميعها بها جثث زرقاء على النافذة“
هناك علاقة وثيقة بين الطعام وبين الحب.
يقال إن المصابين بالشره لديهم جوع عاطفي شديد، والمصابين بالأنفة من بعض أنواع الطعام كاللحوم مثلا، لديهم خوف من الحب.. هكذا تقول التفسيرات النفسية.
في روايته الخلود وفي فصل الجسد يقول كونديرا: “قام الفنان الشهير سلفادور دالي وزوجته جالا، وهما مسنان جدًا بترويض أرنب عاش معهما دون أن يبتعد عنهما خطوة، كانا يحبانه كثيرًا، اضطرا يومًا للسفر في رحلة طويلة، وتناقشا حتى وقت متأخر من الليل حول ما سيفعلانه بالأرنب، كان من الصعب اصطحابه، ولكن الأصعب أن يعهدا به إلى أحد بسبب حذر الأرنب من البشر، في اليوم التالي أعدت جالا الغداء وتلذذ دالي بالأكل حتى اللحظة التي فهم فيها أنه يأكل يخنة الأرنب، نهض عن المائدة وركض نحو الحمام لكي يتقيأ أرنبه الصغير العزيز، رفيق أيام شيخوخته المخلص، بالمقابل كانت جالا سعيدة بدخول حبيبها في جوفها، داعب هذا الجوف ببطء وصار جسد سيدته، لم تعرف طريقة لإتمام الحب أشمل من إدخال الحبيب في المعدة “.
يشير (كونديرا) هنا إلى كيفية حب الآخر والاقتراب منه حتى ليسقط بداخلنا فنحاول هضمه وتمثله إلى أن يصبح من نسيج وجودنا وهذا لا يحدث سوى للمقيمين في أجسادهم. هكذا وصف كونديرا “جالا” أنها تقيم في جسدها ولم تجد طريقة لإتمام الحب أشمل من إدخال الحبيب في المعدة.. إذن هي عكس زوجها، الفنان المنفصل تقريبًا عن جسده، المقيم ـ تقريبًا ـ في خياله، والذي لم يقو على هضم الأرنب.. رفيق شخوخته.
ربط القدماء الحب والإخلاص للآلهة بذبح القرابين وأكلها، كانوا يذبحون أبناءهم حبًا وتقربًا إلى الآلهة، ثم تهذب هذا الطقس بعد ذلك ليصبح هذا القربان حيوانًا يُذبَح ويُؤكَل حبًا في الله وتقربًا إليه. وها هو السيد المسيح يقول: “الحق الحق أقول لكم، إن لم تأكلوا جسد بن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم، من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير، لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق، من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه” (إنجيل يوحنا).
إنه سر القربان المقدس، سر يتناول به المؤمن في شكل الخبز جسد المسيح نفسه، وفي شكل النبيذ دم المسيح بعينه، لمغفرة الخطايا وللحياة الأبدية.
تلك هي القدرة على هضم الحبيب وتمثله ليصبح جزءًا من كياننا الشخصي، فيأتنس الوجود الإنساني بأحباء يملؤون خواءه.