هناء غمراوي
اللوحة: افلنان الأميركي إدوارد هوبر
غالباً ما يحمل الإنسان في حنايا نفسه الكثير من الأمنيات، بعض منها يعبر عن طموحات كبرى في الحياة يستمر في السعي لنيلها، وبذل كل ما في وسعه لتحقيقها مهما واجه من صعوبات. فالحياة الفارغة من هدف نسعى اليه لا طعم لها، والذي يعيش بدون هدف يبقى كصخرة مهملة ملقاة في جانب الطريق، يمر الناس بها ولا ينتبهون لوجودها.
وبقدر ما تعظم بعين الأنسان نفسه، ويعلو قدرها، بقدر ما تسمو طموحاته وتطلعاته في الحياة.
ولكن ماذا عن الأمنيات الصغيرة التي ترافقنا وتحتل أحياناً حيزاً من شعورنا اللاواعي ولا نستطيع بلوغها، على بساطتها وسهولة تحقيقها!.
ابنتي المهاجرة، حققت في الحياة طموحات لا بأس بها يحلم بتحقيقها الكثير من الناس، فقد حصلت على شهادة جامعية عالية. سافرت الى بلدان عديدة. شكلت مع بعض الأصدقاء فرقة موسيقية الى جانب عملها الذي تمارسه، وكنت أحياناً أسألها ضاحكة؛ هل حققت أمنيتك في الحياة؟ فتجيبني ونبرة الحزن تكسو صوتها: “لا بعد، مازال صاحب البيت الذي أقطنه يمانع بشدة”. وأفهم انا أن أمنيتها في إقتناء قطة أو كلب لم تتحقق بعد…
وانا طبعاً مثل أغلب البشر تسكنني أمنيات صغيرة أغلبها مرتبطة بالطبيعة والأرض. فبالنسبة لي زيارة الطبيعة وتناول الطعام في غابة مثلا، أو قرب نبع ماء، لهي متعة أفضل عندي من ارتياد افخم مطاعم المدينة. وقطف ثمرة عن أمها لا يقارن عندي بكل ما تزخر به متاجر الخضار.
فكيف إذا تسنى لي زراعة النبتة بيدي وانتظار أوان قطافها؟
طبعا خزنت أمنياتي الصغيرة وأغلقت عليها دون أن تغيب عني. فأنا إنسانة واقعية تعرف ان من يقطن في الدور التاسع من مبنى في المدينة لا شأن ولا نصيب له بالزراعة، وأقصد المنزلية طبعا. فكم حلمت أن أمتلك حديقة صغيرة أتمكن أن أغرس فيها شتلات الخضار وأسقيها، وأنظف أرضها من الأعشاب الضارة وأرقب كيف تتحول أزهارها الى ثمار يانعة تسر الناظرين…
وهذه الأمنيات الصغيرة، التي أتحدث عنها على بساطتها، كان لدي قناعة بأنها ستمنحني شعوراً بالرضى والأمان والسلام الداخلي؛ قناعة يشهد لها أصحاب الاختصاص من علماء وأطباء نفسيين؛ رأوا أن الزراعة المنزلية تزيل الكآبة وتحسن الصحة النفسية عند الانسان.
لذلك فإن أول ما لفت نظري عند وصولي الى مدينة نيويورك هذه الخضرة الممتدة المتمثلة بهذا العدد الكبير من الأشجار المغروسة على الجانبين، وفي كافة شوارع المدينة، والتي تحولت في بعضها الى مظلة كثيفة تحجب السماء نتيجة تشابك الأغصان المتعانقة، الممتدة من الأشجار على جانبي الطريق… وحدث ولا حرج عن مئات العصافير التي تقطن هذه الأشجار وتحول صباحات المدينة الى اوركسترا طبيعية منبعثة من داخل الأغصان الوارفة…
أما البيوت فمعظمها مصمم على شكل أبنية لا تعلو عن الأرض لأكثر من طبقتين، جميعها محاطة بحديقة صغيرة أمامية frontyard ومساحة خلفية backyard … حتى البيوت البسيطة والتي يسكنها اناس بسيطون، وليس بالضرورة ان يكونوا من الأغنياء هي مصممة على هذا الشكل.
كان نصيبي في السكن الذي استضافتني ابنتي فيه أن يكون من الأبنية التي تروق لي على بساطتها. الحي هادئ ونظيف، والأهم وجود المساحة الخلفية للبيت.
وجودي في بلد أجنبي كمقيمة وليس كزائرة أو ضيفة وضعني في مواجهة عدة تحديات. كان أهمها إتقان اللغة، الحصول على التأمينات الصحية والاجتماعية اللازمة، الحصول على رخصة قيادة السيارة… باختصار كان المطلوب مني خوض العديد من الخبرات والتحديات لأتمكن من الانخراط ولو بشكل مقبول في هذا المجتمع الجديد، المختلف.
كل هذه الظروف لم تمنع أمنياتي الصغيرة الغافية داخلي من الصحو وتنبيهي كل صباح الى وجود الحديقة الخلفية للمنزل الذي أسكنه، الخالية الا من بساط من العشب الأخضر تتسابق عليه السناجب. وتزوره أحيانا بعض العصافير تبحث بمناقيرها الصغيرة بين الأعشاب عما تقتات به.
لم اترك الفكرة غافية في داخلي، سرعان ما أيقظتها وبدأت السعي حثيثا لتحقيقها.
لم يكن ذلك أمرا سهلاً فنحن في بلد يرعاه قانون كما قالت ابنتي، يلزمنا أولا الاستحصال على إذن من صاحب البيت لنزرع الحديقة..
كل الإجراءات اللازمة تمت على عجل. وبمساعدة أحد الجيران تم حرث قسم من الحديقة وصار جاهزا لاستقبال الشتول.
وكان لي ما أردت…كل الأمنيات الصغيرة التي حملتها من طفولتي المبكرة حيث كنت أقضي صباحاتها في القفز بين أشجار اللوز والتين والخوخ والرمان في حديقة منزلنا الصغيرة استفاقت داخلي…
انا اليوم اشرب قهوتي الصباحية في الحديقة. رائحة المزروعات تغزو مسامي. رائحة الحبق تذكرني برائحة أمي، وبالكبة اللبنانية الشهيرة. وثمرات شتلات البندورة الحمراء، والفليفلة الخضراء تنظر إليّ ضاحكة تحت وهج سماء نيويورك.
ابتسم في سري وأقول: “شكرا نيوريورك”.