تحدياً لمن سخر منه.. بنى قلعة بمفرده

تحدياً لمن سخر منه.. بنى قلعة بمفرده

جولييت المصري

“عندما تملك قصرًا، يمكنك أن تتحدث إليّ”

جملة من شفاه المحبوبة، تبعتها سخرية الزملاء، وعقاب المعلم؛ دفعته ليحمل الصخر، وينفق العمر ليشيد قصره الخاص الذي أصبح مزارا ومعلما من معالم بلاده.

إنه مُوسى عبد الكريم المعماري، فنان وبنّاء لبناني، ذاع صيته بعد بناء القلعة الشهيرة التي سُميت باسمه «قلعة موسى»، قلعته – الحلم – التي أصر على أن يشيدها بيديه حجرا حجرا، فأصبحت مقصدا للسواح من كل مكان، وقد احتاج لبنائها إلى ستين عاما من العمل المضني، بدأها عام 1962، محولا الطاقة الكامنة في روحه إلى سيمفونية تعزفها الجدران المشيدة بالإرادة، فقد حول الذكريات المحبطة إلى قدرة تفوق الوصف فيبني بيديه العاريتين قصرا منيفا، ينبض كل حجر فيه بالمشاعر، وتنبئنا حبات رماله بمعاني الحكمة.

 ولد موسى عام 1930م في قرية الفاكهة القريبة من بعلبك، وتعود أصوله إلى حارة السرايا ببلدة الحصن في حمص – سورية، اشتهرت عائلته بِتوارثها مهنة العمارة حتى اتخذت من المهنة اسمًا لها، وكان والده، عبد الكريم المعماري، كثير الترحال، خصوصًا بين المناطق اللبنانية، وكان يصطحب زوجته معه، ولِهذا السبب وُلد موسى في لبنان، وبعد ولادته بِفترة، اصطحبته أمه إلى حارة السرايا لتسجّله في قيود العائلة، فاستقرا في الحارة، وهناك تلقى تعليمه الأول في إحدى المدارس القريبة، وبعد سنوات، كان على الأم وابنها أن يلتحقا بمكان عمل الوالد في طرطوس، والتحق موسى وقتها بمدرسة «المتنبي» لمتابعة تحصيله العلمي. 

كبر موسى وكبرت أحلامه معه، تلك الأحلام التي دفعته دون أن يدري للوقوع في غرام زميلته “سيدة”، بنت الأثرياء التي لم تأبه لمشاعره واتخذته سخرية هي وزملاء صفه، فقد كان وقتها في الخامسة عشر من عمره، فصار أسير هذا الحب، ودون أن يعير أي اهتمام للفوارق الاجتماعية بينهما، حيث كانت ابنة عائلة ثرية من العائلات الأرستقراطيَّة، وكان والدها حاكما لإحدى نواحي طرطوس، تعيش في قصر باذخ، بينما يعجنه الفقر وتطحنه المسكنة، لكن دفعه عشقه لأن يصارحها بما يملك من مشاعر تجاهها، ليلاقي منها مزيدا من السخرية منه ومما باح به، وتبعت ذلك بالاستهزاء قائلة: “عندما تملك قصراً يمكنك التحدث إلي”.

 تركه هذا الموقف خائباً غارقاً في أحلامه وتخيلاته، حتى صار يترجمها رسما على الورق، يرسم ذلك القصر الذي بات يشكل هاجسا يتملكه ليلا ونهارا، وفي إحدى حصص الرسم، طلب معلم الرسم “أستاذ أنور” – الذي كان معروفاً بقسوته الشديدة – من تلامذته أن يرسموا عصفورًا على شجرة، لكن موسى لم يرسم ما طلب منه، بل رسم القصر الذي وعد الفتاة به في خياله، فغضب منه الأُستاذ لما انتبه لشروده وعصيانه لما أمره به، فاتّجه إليه وهو يصرخ في وجهه مستفسرا عما يفعل، وسأله باستهزاء قائلا: ماذا تفبرك؟ هل هذا قصر جدك؟، ثم سحب بيده الورقة من أمامه ومزق رسمته، ثم رمى بالورقة على الأرض وداسها بقدمه، وضربه بِقضيب الرُمَّان وطرده من الصف قائلا له: “أنت مطرود من المدرسة، اذهب إلى والدك وابنِ له قصراً مشابهاً لهذا القصر”، لم يستطع موسى إخفاء شعوره بالمهانة والخيبة، و أجابه بلهجة كلها تحد قائلاً “سوف ترى قصري أنا، ولو بعد حين”، وجمع الورقة الممزقة ووضعها في جيبه، ولشدّة غيظ الأستاذ من جواب موسى قام بضربه ضرباً مبرحاً بعصا الرمان مع ضحكات وشماتة الطلاب المتواجدين في الصف، حتى حبيبته، فكانت المشادّة التي قلبت حياته رأساً على عقب، وكان هذا الموقف حافزاً كبيراً زاده إصراراً على تحقيق حلمه.

غادر موسى المدرسة وعاد إلى منزله المتواضع، وبدأ بتجميع الورقة التي فتتها المعلم وهو يذرف فوقها دموع الحسرة على حلمه الممزق، ثم وضعها في علبة بقيت بحوزته لعشرات السنين، وكانت له خير محفز طيلة مشوار حياته الشاقة، فقد هجر مدرسته وبلدته عام 1945 دون أن يخبر أحداً، وتوجّه سيراً على الأقدام من طرطوس إلى مدينة صيدا في لبنان، وباشر حياته المهنية في العمل مع عمه عيسى المعماري بترميم قلعة صيدا البحرية، فاكتسب منه مهاراتٍ عدة في البناء والنحت، عمل في ترميم الآثار المعروضة في المتاحف والقصور وأصبح اسمًا معروفًا في مديرية الآثار اللبنانية، فأسند إليه الأمير موريس شهاب مهمة ترميم القلاع، وحفظ الآثار التي جرى اكتشافها في لبنان في المتحف الوطني في بيروت، كما كُلف بتنصيب الأعمدة التي تم اكتشافها بعد التنقيب في أرض مبنى بلدية بيروت أمام المتحف الوطني، ليواصل بعد ذلك عمله في نفس المجال نتيجة لاكتسابه الخبرة الكبيرة من تعامله مع الآثار، ولمهارته المشهود لها، جرى انتقائه لترميم متحف الأمير بشير الشهابي الثاني الكبير في قصر بيت الدين، كما تولى الإشراف على نقل أسلحة الأمير وثيابه ومصوغات زوجاته وباقي الأشياء الثمينة في متحف القصر، وكان كل ذلك إلى جانب وظيفته في شركة الكهرباء، وهذا ما ساعده في إنجاز حلمه في بناء القصر لاحقاً.

تمكن موسى من خلال عمله المضني والمتفاني من جني وجمع مبلغ من المال لا بأس به، كان كافيا وقتها لشراء قطعة من الأرض مساحتها ثمانية دونمات، وبدأ العمل بتنفيذ مخططه واستخراج الرخص القانونية التي تمكنه من بناء قصره الذي لطالما حلم به، فاختار لقصره موقعاً مميزاً وساحراً في جبل لبنان، في منطقة دير القمر ببلدة بيت الدين، ووضع حجر الأساس عام 1962 وباشر العمل الدؤوب بمساعدة من زوجته السيدة ماريا عيد ابنة قائم مقام دير القمر، وهي المرأة رفيقة الدرب الحقيقية التي كانت له خير سند.

وبيدين ماهرتين خلط الرمل بالحجر، وحمل حجارة القصر من المقالع إلى موضع البناء في الأرض التي اشتراها على ظهره والتي يفوق عددها 6500 حجرا ضخما، وبعد أربع سنوات من العمل الدؤوب، بمشاركة زوجته، أخذت القلعة تستقبل بعض الزُوَّار الذين بدأ يلفتهم الحجارة المنحوتة والأبراج.

ثم عمد بعدها إلى تجهيزه من الداخل، فصنع المجسمات التي تنتشر في غرف القصر بطبقاته الثلاث، وجسد أفراد عائلته وأقربائه وجميع الفلاحين الذين آزروه في البناء، كما جسَّد الحدث الهام الذي دفعه إلى تحقيق حلمه، فعاد إلى سوريا وأحضر مقاعد الصف والسبورة، وجسد مشهد الأُستاذ وهو يضربه، بينما الطلاب يسخرون. وأصبحت القلعة متحفا تاريخيا يجسد الحياة القروية اللبنانية والشامية في القرنين التاسع عشر والعشرين، وأضاف إليها موسى مجموعة من الأسلحة القديمة من العصر العثماني حتى الانتداب الفرنسي للبنان وسوريا، وتعد هذه المجموعة من أكبر المجموعات في الشرق الأوسط، وقد أضاف بذلك إلى قلاع لبنان قلعة يسجل التاريخ أن شخصا بناها بمفرده، وكلفه ذلك 60 عاماً من العمل المتواصل، أنفق فيها كل ما يملك من مال، مجتازاً كل الصعاب والمستحيلات في سبيل بلوغ هدفه المنشود.

ذاع صيت موسى ولاقى قصره شهرة عالمية كبيرة فأصبح أحد المعالم اللبنانية الهامة يؤمه السياح من كل حدب وصوب، لكنه كان يسعى للبحث عن حبيبته الأولى، وهو ما أفصح عنه بعد تمكنه من الوصول لها بعد جهد جهيد، وعرف مكان إقامتها في نيويورك، فنسق مع إحدى أقربائه لدعوتها لزيارة لبنان، والقدوم لزيارة قصره بوضعه على خريطة جولتها السياحية، دون أن تعلم شيئا عن حقيقة الأمر.

وصلت “سيدة” إلى القصر، وكان العجوز موسى في استقبالها، لكن قلبه لم يكن ينبض حباً بل ينبض بشيء آخر، فهو أبدا لم ينس سخريتها منه واستهزائها بفقره، ولندعه يتحدث عما كان في قلبه ذلك اليوم:

«كنت أحرص على أن تدخل من الباب المُنخفض. أردت أن تركع أمامي، مثلما ركعتُ يوم ضربني المُعلِّم لأنني حاولت تقبيلها، فلمَّا رأتني سألت: “أنت موسى المعماري؟” قبل أن تدمع عيناها بعد 67 عامًا من الفراق».

تُوفي مُوسى المعماري في (يناير) 2018، وهو يشعر بالفخر بما حققه من إنجاز عظيم، مع أنه لم يحظ بفرصة أن يُري أستاذه أنور قصره الموعود، والورقة التي مزقها يوماً وهي معلّقة في مدخل قصره قبل أن يفارق الحياة، تعلم موسى من الحياة الكثير، وكان أهمها تلك العبارة التي نقشها على لوحة وضعها في إحدى الممرات تقول: “علمتني الحياة أن هذا العالم لن يتوقف بعد موتي، كما أن الارض لن تحجم عن دورانها، والشمس لن تكف عن الشروق والغروب”.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s