يوميات هناء في نيويورك.. القراءة (1)

يوميات هناء في نيويورك.. القراءة (1)

هناء غمراوي 

اللوحة: الفنان الإيطالي دوبليو بارنابي

لا أعرف كيف أحدد زمنياً علاقتي بالقراءة، كل ما أعرفه أنها بدأت في سن مبكرة جداً، ربما حين بدأت أتعلم ربط الحروف، ورسم الكلمات.

أذكر أنني حصلت على هدية مميزة، من قريب لي لجهة الوالد، كان يعمل مدرساً في احدى مدارس العاصمة، وكان والدي يحسن وفادته بكرم الضيافة كلما جاء لزيارتنا.

لم أكن قد أتممت الثامنة حين حصلت على تلك الهدية، التي كان لها أثر كبير في تعلقي بالكتاب حد الشغف؛ هديتي كانت مجموعة قصصية للأطفال تزيد عن ثلاثين كتاباً من الأدب العالمي، والتراث العربي، مكتوبة بلغة أنيقة وبسيطة، ومزينة برسومات زاهية تبهج العين وتسر القلب.

عندما بلغت التاسعة وكنت ما ازال في المرحلة الابتدائية، بدأت رحلة القراءة شأن اليافعين والكبار فكانت رحلتي مع مجموعة جرجي زيدان الروائية، التي كنت أواظب على استعارتها من مكتبة المدرسة. والتي تعرفت من خلالها الى التاريخ العربي والإسلامي في بعضٍ من مراحله المهمة. وقد درجت على عادة ان أقرأ كل ما يقع تحت يدي جرائد، حتى لو كانت قديمة. مجلات، وبخاصة مجلة العربي والعربي الصغير المرافق لها وأكثر ما كان يلفتني من موضوعات فيها؛ القصة القصيرة، والاستطلاعات التي كانت تصور حياة وتقاليد الشعوب في كل أنحاء العالم، حيث كنت اسافر معهم في الفكر والخيال، وأعيش حياتهم بعض الأحيان.

في الفترة الممتدة من بداية المرحلة الإعدادية وحتى نهاية المرحلة الثانوية قرأت معظم أعمال الروائيين العرب ومئات الروايات المترجمة عن الأدب العالمي.

بقيت القراءة متعتي الأولى والمفضلة فترة طويلة من الزمن وبخاصة انها كانت المتعة المتوفرة ذلك الوقت، قبل أن انطلق الى مجال العمل بالتدريس، وممارسة نشاطات اجتماعية أخرى مختلفة.

مع تقدمي في العمر لم تنقطع علاقتي بالكتاب. الذي صار رفيقي الدائم وخاصة خلال سفري. فكنت أحسب ساعات المكوث في الطائرة هي ساعات مخصصة للقراءة وبخاصة في الرحلات الطويلة التي كانت تزيد أحياناً عن العشر ساعات. فأنا لا أميل الى مشاهدة الفيديو ولا الى الحديث مع المسافرين.

رحلتي الأخيرة من لبنان الى الولايات المتحدة تزامنت مع عام الجائحة.  كانت الطائرة التي أقلتني من مطار بيروت هي آخر طائرة تقلع من هناك أقفل بعدها المطار لأشهر متتالية. وقد عرفت أيضاً أن مطار نيويورك قد ألغى جميع الرحلات بعد وصولي هنا بساعتين فقط، ولمدة غير محدودة. 

كانت رحلة شاقة يصحبها القلق والخوف من خطر الوباء الذي كان يسبب الهلع لجميع الناس ويفرض عليهم تباعداً اجتماعياً وعزلة لم يعتد أحد عليها من ذي قبل. هذا الظرف الاستثنائي كان مربكاً وحرجاً. عندما غادرت البلد حشوت حقيبة السفر بكل ما ظننت انه ضروري لي من أمتعة شخصية، ولم أتمكن من حمل سوى بعض الكتب، أحدها رواية كنت قد بدأت قراءتها وكتاب جديد عن المدينة العربية أردت ان يكون رفيقي في غربتي في بلاد العم سام.

العزلة التي فرضتها الحكومات على الشعب، والتي سببت الضيق لأغلب الناس لم تسبب لي أي مشكلة شخصية. كان عندي مهمة خاصة انكببت على الاهتمام بها وهي تعلم اللغة الانكليزية، والإلمام بها حتى لا تكون عائقاً لي في تعاملي اليومي هنا. وذلك عبر بعض البرامج الموجودة على اليوتيوب وغيره من المواقع….

ولكن ماذا عن القراءة هنا وقد غادرت مكتبتي العامرة بآلاف الكتب؟

لم تدم هذه المشكلة وقتا طويلاً حيث اهتديت الى بعض المواقع الثقافية التي تنشر إلكترونياً آلاف الكتب. بدأت رحلتي مع نوع آخر من القراءة؛ القراءة الإلكترونية، لم أعد أتلمس الصفحات، ولم يعد قلم الرصاص في يدي يخط التعليقات والملحوظات، التي ترد الى خاطري. قرأت عشرات الكتب والدوايين الشعرية، وطبعاً كانت قراءاتي كلها باللغة العربية، لغتي الأم. الى أن واجهتني ابنتي التي أقيم معها في نيويورك بسؤال؛ الا تلاحظين أنك تبالغين قي قراءاتك العربية وتهملين اللغة الانكليزية تماماً؟

وكان علي أن أطرح على نفسي هذا السؤال وأجيب عليه بكل صراحة.

 نعم أنا أحب لغتي العربية، وأتابع القراءة بها حد الشغف، ولكن ماذا عن البلد الذي أقيم فيه! الا يجدر بي أن أتعلم لغته، وأطلع على ثقافته، وأسعى للتعرف الى الكتّاب وأعمالهم المهمة، شأن اهتمامي بالأدباء والشعراء العرب الذين يكتبون بلغتي الأم.؟

بقي السؤال يراوح في ذهني دون أي إجابة محددة. فالعقبات التي تواجه الإجابة عليه ومحاولة تحقيقه أكثر من تحصى.

كيف لي أن أحصل على هذه الكتب والمكتبات في المدينة كلها مقفلة بسبب الجائحة؟

وإذا اتجه تفكيري أن الجأ الى القراءة الإلكترونية شأن قراءاتي للكتب العربية، فأنا أجد نفسي غير مؤهلة لهذه المهمة بعد.!

بقي السؤال يراوح مكانه في فكري إلى يومٍ خرجت من البيت لأمارس رياضة المشي كعادتي مستغلة هدوء الطقس بعد عاصفة ثلجية استمرت لأيام …

فجأة، ودون سابق إنذار وجدت نفسي أمام خزانة خشبية بباب زجاجي، داخلها عشرات الكتب المنضدة بكل عناية. وقفت أمامها بحذر شديد وأنا أتلفت حولي. الخزانة كانت موجودة على رصيف مقابل لأحد المنازل. وقبل أن أهم بفتحها لاح لي طيف سيدة فسألتها:

“لمن هذه الكتب؟ وهل أستطيع فتح الخزانة والإطلاع على محتوياتها؟ أجابتني بكل لباقة؛ هذه الكتب لمن يريد القراءة، بإمكانك فتح الخزانة واختيار ما يعجبك منها. وفورا بادرتها بسؤال آخر:

“وهل يتحتم علي إعادة الكتب بعد قراءتها”. أجابتني بسرعة؛ “كلا كل ما تختارينه هو لك”.

فتحت الخزانة وبدأت بإخراج الكتب منها وقراءة العناوين علّي أحظى ببعض الكتب لكتّاب معروفين سبق ان قرأت لهم كتباً مترجمة الى العربية: شأن ارنست همنغواي، ومارغريت ميتشل وغيرهم… بالحقيقة لم أعثر على كتب من هذا النوع، ولكنني تخيرت بعض الكتب: منها ما يلائم قدرتي في فهم اللغة الانكليزية من حيث الأسلوب والوضوح، ومنها ما جذبني فيه العنوان، أعدت إغلاق الخزانة بعدما وضعت كتبي المختارة في حقيبتي، وتابعت سيري وأنا أردد شكراً نيويورك.


من خزائن الكتب الموجودة على الأرصفة في نيويورك

يوميات هناء في نيويورك.. القراءة (2)

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s