حنان عبد القادر
وجه تلتقيه لأول مرة، فيغزوك بلا أسلحة مشرعة غير الصدق والصراحة، رقيق حتى النخاع، أليف حد الدهشة، صريح حد الصدمة، الابتسامة التي تعلو محياه، تواكبها تلك النظرة، تجعلك لا تدري ما أبعادها، فقد يختلط عليك الأمر: هل تحمل ترحيبا، أم تشع اطمئنانا، أم يخبرك بها أنه أكثر خبرة منك بالحياة ودروبها، وعليك ألا تبتئس ولا تأخذها جلها على محمل الجد.. فلا شيء يدوم، ولا أحد يظل على حاله إلا الأنقياء.
حين التقيته في رابطة الأدباء أول مرة، وكنت زائرة جديدة أحبو على استحياء داخل أروقتها، خيل لي – لما أهَّلَ بي ورحب – أني في حلم حملني إلى دياري على أجنحته، كان أول من لاقاني فبث بابتسامته في روحي أمناً غريباً، جلس متحدثا إلي بعفوية شديدة، مرحبا بغريبة تتلعثم لغتها، وقد جعلتها كلماته قريبة جدا.
خرجت وما كدت أعرفه، لكني حملت صورة روحه الجميلة داخلي، وتشاء الأقدار أن تجمعنا منارات ملتقى الثلاثاء عند العزيز إسماعيل فهد إسماعيل – رحمة الله عليهما، وتصبح معرفتي به أقرب وأرحب، تأسرني تعليقاته، وتفاجئني صراحته ورأيه الذي لا يخاف فيه لوم اللوام ولا رأي العوام.. وأضاف في مخيلتي له صورة جديدة يؤطرها الأمل والتفاؤل بالحياة، وترويها روح الفكاهة وخفة الظل.
هذا هو شاعرنا علي السبتي الذي تنم آراؤه عن خبايا ذاته بصدق وشفافية، فهو القائل: «إن لم تكن متوازنا مستقرا من داخلك، فأنت لن تعرف الاطمئنان.“
فقد استطاع ببساطة وتلقائية أن يصنع ذلك في حياته، وأن يمارس حريته مع ذاته، فما جدواك إن لم تمارس حريتك مع ذاتك.. هكذا كان يرى.
هو صديق الشباب، لا ينفك عن متابعتهم بشغف، يستمع بحب ويدلي برأيه بكل صراحة، فهو من النادرين الذين ينعتون الخطأ بالخطأ والصواب بالصواب، صاحب روح تتفجر إنسانيةً وتتيه شعراً، وهو أول من كتب قصيدة التفعيلة في الخليج العربي، فكتب قصيدة رباب سنة 1955.
وهو الصديق الصدوق، يرى في الصداقة منحى للتواصل، وقضاء أمتع الأوقات وأخصبها، والصداقة الحقة هي المرآة التي ترى فيها حقيقتك دون رياء، حالة تأتمن فيها صديقك على وجودك، تجعله موطن سرك؛ فلا يخجلك أن تعري ذاتك أمامه؛ لأنه يفهمك أفضل من فهمك لذاتك.
هذا هو السبتي، الصديق الحقيقي الذي تناقل الغالبية قصته الأسيرة مع صديقه بدر شاكر السياب، إبان وفاته والذي قال له ذات لقاء: أنت بموهبتك وأدواتك الفنية هذه، مؤهل لأن تحتل موقعا لافتا بين شعراء جيلك.. وكان السياب في حدسه محقا.
هذا هو الشاعر الذي شفه حب الموسيقا التي يراها مساج الأعصاب، فهي عنده تمسد الروح وترفع التوتر والهم وأرق الخواطر.. الشاعر الذي راوده حلم ممارسة الفن التشكيلي، فشغلته طبيعة الحياة التي عاشها، والمسؤوليات التي حملها عن ذلك الحلم، لكنه وجد في الشعر ضالته بعد لأي، حيث رأى أن الشاعر شأنه شأن التشكيلي الذي يقوم برسم صورة مختزنة في مخيلته بتفاصيل جزئية أو برؤية ضبابية، لكنها تتضح معالمها شيئا فشيئا أثناء العمل بها، وكذلك تكون القصيدة.
وهو المحب لعالم المسرح بتفاصيله وكواليسه المفعمة بالمفاجأة، فهو نموذج لشاعر لم يحبس نفسه في الشعر فنا، لكن علاقته بالكلمة أضحت سببا في إقباله على مناقشة قضايا مجتمعه وانجذابه الى الصحافة وإلى المسرح، ليقول: «المسرح هو إحدى وسائل التثـقيف والتوجيه في المجتمع الى جانب كونه وسيلة للترفيه عن النفس». وهذا قول يدل على إيمان الشاعر بالمسرح كرافد ثقافي شأنه شأن الشعر والأدب، ورؤية شاعر وكاتب أهلته ثقافته وشخصيته، لأن ينتقد أوضاع المسرح ويتخذ موقفا يؤكد دور الفرد في المجتمع المدني.
وفي مؤازرته للأفكار الجديدة نجح السبتي في تحاشي أي تصنع لغوي، أو اغتراب فكري ليبقى التصاقه في مجتمعه بمثابة ختم الأصالة والانتماء للوطن. أسى عميق، دائم الإقامة في عينيه، لا يمكن أن تعرف له سببا. لا يجيد الشكوى ولا التذمر بالرغم من استماعه وتفاعله مع مآسي الجميع، يقابلك بابتسامته العريضة، وروحه النبيلة، يحكي لك عن زمان قديم وزمان آتٍ، يرى في الأماكن المفتوحة سلوته، ويبث للطبيعة عبرته. متسامح، لا يعرف الكراهية، يؤمن أن من يحاول الإساءة إليه إنما يسيء إلى نفسه.. يقر بعشقه اللاينتهي وغير المشروط قائلا:
أحبكم رغم الأذى، أنتمُ، أهلي
فإن يشتكي بعضي، تداعى له كلي
غفرت لكم مهما بدا من فعالكم،
وكم ستر السوءات ذو همة قبلي.
ويراوغ الشيخوخة منكرا فيقول:
الشيخوخة شيء لا أعرفه، ولا أريد أن أعرفه، كل الذي أرجوه ألا تصادفني، فأنا أكره العجز مثلما أكره المرض، وخير لإنسان مثلي أن يفارق مالكا زمام جسده وعقله؛ حرصا على ذكرى طيبة تبقى عالقة في ذهن الآخر.
له تعليقاته الخاصة.. تعليقاته الصارخة في صراحتها الصادقة حتى الثمالة، يقول:
لا تلتفت،
ما عاد شيء يستحق الالتفات
واضرب بخطوك في المجاهل
في الدروب الموحشات
أو في البحار الساجرات
وفي الرياح السافيات
احمل جراحك،
لن يفكر فيك غيرك في زمان الإمعات
قاوم ليالي القهر
وانشد،
حلو شعرك في البساتين الموات
فغدا يجيء يعيد للموت الحياة
لا تلتفت.
تقول الدكتورة نورية الرومي: (إن المواجهة التي كانت تشغله مواجهة اجتماعية، حملته على الإحساس بالظلم في وطنه، وفي غير وطنه من البلدان الأخرى التي كان يراها).
وعن تناول الشاعر علي السبتي المشكلات الاجتماعية في أشعاره يقول الدكتور إبراهيم عبد الرحمن محمد: إن الشاعر قد دخل بأشعاره إلى دائرة الالتزام الاجتماعي، وأوقف فنه على قضايا بعينها – برغم إنسانيتها – فقد حبست طاقته الشعرية في دائرة من المشكلات المحلية، وحالت بينه وبين أن ينطلق على سجيته في تصوير عواطفه.
فلقد صور شاعرنا علي السبتي بقصائده حالات التمرد والقلق داخل مجتمعه بصدق وشفافية.
وعن وسائل التكرار التي يستخدمها بعض الشعراء في القصيدة، والتي لها دور تعبيري واضح يقول الأستاذ سالم عباس خدادة: لا تخلو قصائد علي السبتي من أسلوب التكرار الذي يأتي به لدعم إحساس معين أو تصوير موقف محدد.
ويرى الدكتور عبد الله العتيبي أن شاعرنا السبتي عاش تجربة التغيير الاجتماعي في الكويت، فهو بحق: من جيل مخضرمي الكويت، عاش حياة الكويت القديمة بكل ثبات الواقع الاجتماعي وتقليديته المتمثلة في استقرار قيم مناخه الثقافي، وعاش مرحلة التطور الاجتماعي، وشهد، بكل وعي وإدراك، سرعة هذا التطور، ومدى انعكاسه على حركة المجتمع، واتساع مكونات هذا المجتمع الطبقية وتعقدها، وأهم من ذلك كله إدراك شاعرنا لحقيقة الصراع التقليدي المشروع بين المحافظين وجيل الشباب المنسجم بطبعه مع حركة التجديد.
وحول ديوان (بيت من نجوم الصيف) يؤكد الدكتور العتيبي أنه خلاصة واقع الستينات الشعري بكل تطلعات الجيل الجديد، المتمرد على كل من حوله وما حوله بفعل توهج الشعور القومي في الفكر والسياسة في الوطن العربي.
أما الدكتور محمد حسن عبد الله، فقد وصفه بقوله: نحن أمام شاعر مقل، متمهل، يروض القول، ويختبر الحياة قبل أن يضفرها في تشكيل لغوي.
وعن المدينة في شعر علي السبتي تقول الدكتورة سعاد عبد الوهاب العبد الرحمن: تظهر المدينة في شعر علي السبتي، مدينة القصور والكاديلاك، التي ينبغي أن تتغير لتصنع المستقبل، وإلا فإنه لا أمل. وكتب السبتي عن المدينة ثلاث قصائد هي حسب ترتيبها الزمني:
عودة إلى الأرض الخراب – سبتمبر 1964 .
الليل في المدينة ديسمبر – 1964 .
مدينة ناسها بشر ديسمبر – 1966.
يمتاز أسلوب السبتي بالسلاسة والوضوح والمفردات المختارة التي تدل على مقدرة بأسرار التراكيب اللغوية، كما تدل معظم قصائده على تسجيل المشكلات الاجتماعية والوطنية والتقاليد الاجتماعية، وعلاقة ذلك بالإنسان والأرض والذات والغربة والاغتراب.
إن العلاقة وطيدة بين الشاعر علي السبتي وبين المفردة الشعرية والكويت والذات والآخرين، وقد يطور ذلك مع تطور المجتمع، وهو صادق مع نفسه ومع الآخرين، وقصائده تعكس ذاته التي هي جزء من ذات الآخرين، وجزء من قضايا المجتمع.
يقول في إحدى قصائده:
أفكر فيك بسوق به الناس ينسجون حتى الحياء
يتاجر أكثرهم بالسهام وبالكبرياء
وكم اشتهيك فلست كباقي النساء.
هذا هو شاعرنا، أبداً يشرع قلبه للناس، لا يحب الخداع، يحيا على سجيته يتميز بحساسيته، يتأثر بما يدور حوله، ويشارك الآخرين بروحه مما يعذبها كثيراً، فهو الوفي الصادق مع نفسه والآخرين، وقد قالت الدكتورة نورية الرومي في شعره: ويهمنا من هذا الشعر ناحية أخرى هي تلك الإشارات المتعددة التي أخذ شعراء هذا التيار يكثرون من ترديدها في أشعارهم، ويتخذون منها رموزاً لتلك القضايا التي كانت تؤرقهم، وأحاسيس الغربة والظلم التي كانت تطاردهم.
وقال عنه صديقه الراحل إسماعيل فهد إسماعيل في كتابه «علي السبتي شاعر في الهواء الطلق»: إن قصائد الشاعر علي السبتي قد حفلت بهموم المسحوقين والمهمشين من الفقراء والمضطهدين، واتسمت بنبرة تعلو أحيانا لتجيء مباشرة، شأن الغالبية العظمى من الشعر ذي التوجه الملتزم في مطلع النصف الثاني للقرن العشرين.
كذلك لم تغب عن شعره قضاياه القومية، التي شغلت اهتمام جملة المبدعين والمثقفين العرب أمثاله، أيام سيادة الفكر القومي التقدمي على الساحة السياسية، فهو أحد أهم شعراء الكويت في القرن الماضي ولا يزال ـ حتى يومنا هذا ـ شاعرا فاعلا ومؤثرا، بصوته الخاص، ومنحاه الملتزم بالشعر الحديث (شعر التفعيلة) دون أن يقطع جذوره بالعمود، تماما، على الرغم من كونه أول المتمردين عليه بلا منازع، منذ قصائده المبكرة التي صادفها حظ النشر، وأبرزها قصيدة (رباب) عام 1955م.
وعن ثقافة السبتي يقول المؤلف لقد شغف الشاعر علي السبتي بمؤلفات سلامة موسى، وكتب زكي مبارك ومؤلفات طه حسين والمازني وعباس محمود العقاد ومصطفى لطفي المنفلوطي وجبران خليل جبران، وغيرهم.
رحم الله علي السبتي، الشاعر الواعي، الذي كان يمتلك نظرة ثاقبة للأمس واليوم وللمستقبل، وربما هذا ما دفعه أن يعتزل الساحة الثقافية طويلا، رافضا حتى زيارة المقربين، ترجل أخيرا ورحل في هدوء عن دنيانا، لكنه ترك بصمته التي تميزه في الشعر الكويتي، ومحبة تدوم في قلب كل من عرفه.
علي السبتي شاعر كويتي. ولد في مدينة الكويت عام ١٩٣٦م. عضو رابطة الأدباء في الكويت وجمعية الصحفيين. من دواوينه الشعرية «بيت من نجوم الصيف» 1969 و«أشعار في الهواء الطلق» 1980 و«وعادت الأشعار» 1997.