هناء غمراوي
اللوحة: الفنان الأميركي إدوارد هوبر
لم أكن أعرف أن نسياني للكتاب، الذي سيرافقني في رحلتي إلى الولايات المتحدة سيكون له هذا التأثير الكبير في تغيير مجرى حياتي.
اعتدت في كل رحلاتي أن يرافقني كتاب أو أكثر من مكتبتي، وغالباً ما يكون رواية. لأنها ستكون الأقدر على جذب اهتمامي وسط حركة المضيفين وصخب المسافرين في الطائرة.
حدث ذلك نهاية الأسبوع الأول، من شهر تموز (يوليو) من العام 2013؛ حيث كنت انتظر نهاية العام الدراسي بفارغ الصبر لأتمكن من مغادرة لبنان إلى الولايات المتحدة، وأكون قرب ابنتي التي تنتظر مولودتها الأولى، ياسمينة.
لم تكن وجهتي هذه المرة مدينة نيويورك، بل كنت أقصد ولاية أريزونا، وهي تعتبر نسبياً أبعد من نيويورك. لوقوعها جنوب وسط البلاد، قريباً من الحدود الشمالية للمكسيك. وهذا يعني زيادة حوالي خمس ساعات من الطيران.
في مطار بيروت، وبعدما أنهيت كل المعاملات المتعلقة بالسفر، دخلت المنطقة الحرة بهدف شراء بعض الأطايب، التي يحن إليها اللبناني في الخارج؛ البقلاوة الطرابلسية الفاخرة، والمكسرات اللبنانية الميزة. قبل الصعود إلى الطائرة بأقل من ساعة تفقدت الكتاب الذي كنت سأجلبه معي فلم أجده. فتشت في حقيبة اليد وبين الأمتعة في الحقيبة الصغيرة فلم أجده، عندها تيقنت انني ربما نسيته في البيت…
ما العمل؟ أمامي رحلتان طويلتان الأولى من بيروت إلى لندن وتستغرق خمس ساعاتٍ متواصلة. ثم وبعد المكوث في مطار لندن لحوالي تسع ساعات، هناك رحلة أخرى إلى مطار فينيكس تستغرق عشر ساعات من الطيران. سنعبر خلالها المحيط الأطلسي وعدداً كبيراً من الولايات الأميركية قبل الوصول إلى أريزونا…
مرة أخرى قلت في نفسي ما العمل.! هل استسلم؟
نظرت حولي، تذكرت انني في السوق الحرة في المطار، و لا بد أن أجد بها مكتبة.
دقائق قليلة كنت داخل ال virgin وبسرعة كبيرة راحت عينيً، تتصفح عناوين الكتب الموجودة.
للأسف كانت معظمها بإحدى اللغتين الإنكليزية أو الفرنسية. حتى وقعت مؤخراً. على كتابين باللغة العربية، أحدهما كان للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي، ” الأسود يليق بك”. وهذا الكتاب كنت قد قرأته من قبل. كما وجدت كتاباً آخر لكاتب لم اسمع باسمه من قبل. شدتني صورة الغلاف الملونة بالأخضر داخلها سيقان متعامدة. ولكن الذي شدني أكثر ما قرأته على الصفحة الأخيرة من غلاف الكتاب، وأنا من عادتي بعد قراءة عنوان الكتاب أن أتصفح الصفحات الأولى التي تشمل أحياناً الإهداء، أو بعض العبارات التي يريدها الكاتب أن تكون بمثابة مفاتيح لما سيقوله في الرواية. ثم انتقل إلى الصفحة الأخيرة من الكتاب، وأقصد صفحة الغلاف. وهي الأهم بالنسبة لي إذ أنها غالباً ما تحوي مقتطفات من الكتاب، بالإضافة إلى رأي الناشر، أو تعليقاً لبعض الأدباء المعروفين، الذين اطلعوا على العمل وسجلوا آراءهم وانطباعاتهم.
على الصفحة الأخيرة وجدت عنوان الكتاب، وتعريفه؛ بأنه رواية ومن ثم اسم الكاتب وتعريف عنه ايضا؛ روائي من الكويت. كل هذه المعلومات لم تسترع انتباهي؛ الذي استرعى انتباهي الأسطر، التي اقتطعها الناشر من الرواية، وجعلها في صفحة الغلاف الأخيرة: “لماذا كان جلوسي تحت الشجرة يزعج أمي؟ أتراها كانت تخشى أن تنبت لي جذور تضرب في عمق الأرض ما يجعل عودتي إلى بلاد أبي أمراً مستحيلاً؟ …”
لم أكمل القراءة، شدني الموضوع؛ جذور… عودة… بلاد أبي… توجهت إلى صندوق المحاسبة، دفعت ثمن الكتاب وانطلقت بسرعة نحو البوابة قبل أن يفوتني موعد إقلاع الطائرة.
أخذنا أماكننا في الطائرة وبعد أن أقلعت بأمان تفقدت روايتي الجديدة لأباشر رحلتي معها.
الحقيقة لم أستطع أن أبدأ القراءة بسهولة كسابق عهدي مع باقي الروايات التي قرأتها. وجدت نفسي أمام نوع جديد من الكتابة، ربما فيه نوع من المخاتلة اذا جاز التعبير؛ ففي الصفحات الأولى هناك إشارة لوجود مترجم للعمل، (إشارة بأن العمل مترجم عن اللغة الفليبينية)ووجود مدققة للترجمة. أما الكاتب فبالرغم من انه سبق التعريف عنه على أنه كويتي، وجدت على إحدى الصفحات الداخلية اسما لمؤلف آخر مكتوب اسمه بالعربية وبالفليبينية معاً. وكذلك عنوان الرواية مكتوب باللغتين أيضاً . هذا وضعني في حيرة وتساؤل هل يجوز أن يكون للعمل كاتبين أحدهما فيليبيني، والآخر عربي كويتي؟ وإذا كان أحدهما عربياً كويتياً هذا يعني ان لغته الأم عربية! ما الذي يدفع كاتب عربي الأصل أن يكتب بلغة غريبة عن لغته؟.
بدل أن استمتع بالقراءة وأغيب مع روايتي عن جو الطائرة، وجدتني وسط مجموعة من الأحاجي، ما لبثت أن تأكدت لي عندما قرأت السطر الأول من الرواية؛ (اسمي jose، ننطقه في الفليبين، كما في الانكليزية، هوزيه وفي العربية كما في الإسبانية خوسيه…أما هنا في الكويت، فلا شأن لكل تلك الأسماء باسمي حيث هو . . عيسى!)
تابعت القراءة وأنا أحسبني اسبح في خضم من الألغاز والغرائبية، ولكن شغفي بالقراءة وحشريتي في اكتشاف مضمون ما احتوت عليه تلك الرواية الممتدة على 398 صفحة كانا دافعاً كافياً لي لأعيد قراءتها ثلاث مرات متتالية، وذلك طبعاً بعد وصولي بسلام إلى وجهتي المقصودة متشبثة بشطرٍ من بيت شعرٍ للمتنبي يقول فيه: السهلٰ في السهلِ والصعبُ في الصعبِ.
بعد غياب شهرين عدت إلى لبنان، مطلع العام الدراسي وكانت قد اختمرت في رأسي فكرة واضحة وناضجة عن موضوع البحث، الذي سأتقدم به إلى الجامعة اللبنانية لنيل شهادة الماستر في الأدب العربي. والذي كان قد تأخر لسنة كاملة بسبب عدم عثوري على موضوع جديد مقنع لي قبل أن يكون مقنعاً للجنة قبول الأبحاث في الجامعة.
هوامش:
Virgin mega store ، مكتبة كبيرة موجودة في بيروت ولها فروع في المناطق اللبنانية.
الرواية: ساق البامبو، وهي الحائزة على الجائزة العالمية للرواية(البوكر) للعام 2013
الكاتب: سعود السنعوسي.
انجزت دراسة حول الرواية نلت بموجبها شهادة الماستر، كانت بعنوان: صورة الآخر في الرواية العربية، ساق البامبو أنموذجاً. ( الدراسة موجودة في مكتبة الجامعة اللبنانية)