فردوس عبد الرحمن 

اللوحة: الفنان السوري خلدون عزام

ماذا يحدث لو أنك عشت بلا تصورات؟

سوف تجد العالم فقيرًا جدًا، وستغدو أنت نفسك خاويًا، فنحن لا نرى الأشياء في حقيقتها بل بالصورة التي ترتسم عن تلك الأشياء في أذهاننا..  يقول يونج: “إننا نعيش مباشرة في عالم من الصور فقط”. ومع كل المحاولات في أن نكون موضوعيين وواقعيين، لكي نرى الأشياء في حقيقتها على أرض الواقع، لا نقدر على محو المخيلة تمامًا.

لا أحد يستطيع أن يحيا دون مخيلة.. لكنه فقط محاولة التقريب بين الصورة المرتسمة في أذهاننا عن الشيء وبين الشئ في حقيقته، وعلى قدر النضج والنمو النفسي، تقترب هذه الصورة من الحقيقة. في الطفولة المبكرة لا يرى الطفل أمه في محدوديتها البشرية بل يراها الأم الأولى المُلبية لكل احتياجاته ورغباته من مأكل وملبس ودفء وحنان ولعب وتسلية وهلمَّ جرَّا.. هكذا ـ أيضاً ـ يرى أباه في صورة الإله القادر على المكافأة والعقاب والمنع والمنح بلا حدود.

في طفولتي المبكرة كنت أحلم بربنا في صورة أبي.. نعم فبقدر تضخم صورة المعاني والأشخاص والأشياء في ذهن الإنسان.. بقدر الغرق في عالم الطفولة المفجع. من لم تتقلص لديه تلك الصورة لتقترب من الحقيقة يظل طفلًا ساذجًا في حالة صدمة دائمة من العالم والوجود. الفرق الرهيب بين الصورة التي في رأسه عن الموجودات وبين الموجودات في حقيقتها على أرض الواقع يُحدث له هذه الصدمة. الأشخاص الغارقين في وعي الطفولة البائس والذين لديهم تلك الصورة المتضخمة عن الأب والأم دون إدراك لمحدوديتهما البشرية وعجز قدراتهما يظلون ناقمين عليهما.

كانت ابنتي ناقمة على أبيها، والذي تركها في طفولتها، وتهرب من الإنفاق عليها حتى إذا كبرت ناصبته العداء. وذات يوم تعرضت لحادث غرق، وقعت فيه داخل النقطة الفاصلة بين الحياة والموت. كان الوعي لديها في تلك اللحظة يغيب ويسقط في ظلمات البحر ونفسها. ثم يعود لترى المياه في عنفها وجبروتها. ظلت هكذا لعدة دقائق، أعتقد أنها رأت عتمتها الداخلية (يونس في بطن الحوت) خرجت من تلك الحادثة لتطلب أباها على التليفون وتعيد علاقتها به. عندما تأملت ذلك التصرف المفاجئ ـ بالنسبة لي ولها ـ أدركت أنها بذلك الغوص الذي مرت به في حادث الغرق رأت الأب البشري الحقيقي بعجزه ونقصه وخوفه من الحياة فسامحته (فعل البصيرة).

كلما اقتربت التصورات التي كوناها عن العالم من العالم نفسه صرنا أكثر تسامحًا ومرونة.

في واحدة من حلقات برنامج (على ضفاف الحياة) اتصلت إحدى المستمعات وهي في الخمسين من عمرها لتشكو البشر والحياة والعالم قالت بالنص: “الناس بقت وحشة قوي وماعدش عندها أخلاق والحياة معاهم بقت لا تحتمل” رد ضيفي في البرنامج وقال: أعجب لامرأة وصلت إلى هذه السن ومازالت تردد تلك التعبيرات.

هكذا يكون الانسان في حالة صدمة دائمة إذا كانت تصوراته بعيدة عن الأشياء في واقعها. ولكن هل هو قادر على محو تلك التصورات من جذرها؟ أقول كما ذكرت في بداية هذا الفصل: إذا حدث هذا سوف يكون العالم فقيرًا وسيغدو هذا الانسان خاويًا تمامًا.

هذا ما حدث لي بالضبط عندما ولدت ذاتي مرة أخرى، كنت مثل طفل ولد للتو، ليس لدية أي تصورات عن العالم. صفحة بيضاء ليس عليها أية نقوش. أنا أصلًا ولدت نفسي حين اكتشفت أن التصورات التي عشت بها خدعتني، وأودت بي إلى قاع الحرمان من حقيقة الحياة، فصلتني عن العالم الواقعي، عشت سنينًا في أوهام التصورات عن الحياة ولم أعش الحياة في واقعها. لذلك ولدت نفسي من جديد، أُفرِغتها من كل تلك التصورات، ربما فعلت هذا على سبيل الانتقام لنفسي مما فعلته بي الحياة. أقول ربما.. لا يهم، المهم أن يكون لدي القدرة على تحمل تعبات هذا الميلاد الجديد لذاتي. اعترفت أنها أشبه بتجربة اغتراب وتيه عن كل ما كنت أعرفه وأألفه.

عشت سنوات ميلادي الجديد، لا آنس لأغنية، ولا أستمتع بقراءة رواية أو قصيدة شعر برغم أن ذاتي القديمة كانت تنقِّط فنًا، إلاّ أنني مع تلك الذات الجديدة والمولودة لتوها لا آبه بكل أنواع الفن بل بكل أشكال الحياة، والتي لم أستطع في تلك اللحظة أن أرسم لها تصورات في رأسي لأعيش بها، كنت قد فقدت القدرة على التخيل أيضًا، فالخيال يدعمنا في خلق تصورات جديدة. إذ لاأحد يستطيع العيش دون تصورات، فكما قلت: نحن لا نعيش بالأشياء ذاتها في حقيقتها، بل بما نرسمه لها من صور في أذهاننا، وعلى قدر اقتراب تلك الصورة من الحقيقة يكون نضجنا في العمر النفسي، وبالتالي نضجنا في الوعي العقلي.

يحتل الواقع الفارغ محل التصورات عندما نلد ذواتنا من جديد. لهذا رحت أسقط في دائرة من الفراغ الزمني. ويصبح ذلك الزمن ثقيلًا كما كان دائمًا بالنسبة لي، ولكنني كنت أملأه ـ في السابق ـ برزمة من الصور أحاول تجسيدها كما فعلت ـ مثلًا ـ مع زوجي الأول، حين تنازلت له عن صيغتي، وعن مرتبي ذاته، حين ضمنته لدى البنك في قرض كبير، والأكثر من ذلك أنني وقّعت على شيكات بربع مليون جنيه كضمان له لدى البنك، ولم أربط تصرفات التضحية هذه بالواقع الذي عشته معه من خيانات وكذب متواصل واستغناءه عني واستبداله إحدى معشوقاته بي. كنت أعيش تلك الصورة للزوجة المخلصة المضحية، عشتها حتى أعمتني عن الواقع الذي كانت شواهده واضحة لي، وكنت أدركه، ومع ذلك فعندما تلبستني صورة التضحية، استغرقت في تجسيدها، وانفصلت تماما عن حقيقة تصرفاته وخياناته، فخسرت كل شئ تقريبًا. كانت الصور لديّ تتوالد من بعضها البعض بمعزل عن الواقع الذي أنتجها فصرت أحيا في عالم من الصور دون أصل. ليسقط الواقع الحقيقي، وكأنني كنت أطبق نظرية (بودريار) عن العالم الافتراضي والذي تستنسخ فيه الصور نفسها من نفسها، وبهذا فإن الصورة تُفقِد الحياة أصلها الحيّ. نعم أنا أفقدت الحياة أصلها الحي ومتُّ نفسيا لهذا السبب. تلك هى خطيئة التصورات التي أحدثكم عنها.

من تلك الحكاية أصل إلى معنًى هام في حياتي الآن.. لا العيش دون تصورات ممكن ولا العيش بتصورات متضخمة، مفصولة عن الواقع ممكن أيضًا.. فأنا في الحالتين مفصولة عن الحياة وفي الحالتين كان ارتباطي بالزمن سيئًا جدًا.

في حالة ولادتي الجديدة وأنا بلا أي تصورات، كانت عقارب الساعة ممرورة ومتعبة ومصابة بالشلل. أدرك أنني أيام الموت النفسي كنت أقع في الحب لهذا السبب، فعندما يجثم الزمن على صدرك وتنغرس عقارب الساعة في وجودك، تشعر أنه لاسبيل لإزاحة هذا إلاّ عن طريق حركة مفاجئة وغير محسوبة، وهذا ما أوقعني في كثير من الأخطاء وجرَّ عليَّ العديد من الخسارات.

إن الزمن لدى القابعين في أبراج المثالية العالية يبطل كل ما فيه من معنى، فهذا (كونتن) المثالي، حامل القيم والمبادئ وتقاليد العائلة العريقة في رواية (الصخب والعنف) لوليم فوكنر، لايتحمل الزمن على الإطلاق، لا يتحمل ساعة جده التي أهداها أبوه له ويقوم بكسر عقربيها، لكن الزمن يستمر، تظل الساعة تتكتك لتحصي الزمن ولا تشير إليه في آن واحد. ياله من خواء يؤدي إلى انتحاره.

لي صديقة من هذا النوع عاشت حياتها بهذا الشعور، كان الزمن يجري ويسبقها دون أيّ معنى، الزمن ينتحر على يديها، تاركًا لها الخواء والعدم وهذا ما حدث لي بالضبط ولكن لسبب عكسي. حين تخلصت من التصورات، عندما ولدت نفسي، توقف الزمن نهائيًا، وأُصِبت أيضًا بالخواء والعدم.

يمكنني أن أعترف الآن أن نزولي إلى ميدان التحرير في ثورة الخامس والعشرين من يناير كان هروبًا من الفراغ الزمني الذي وقعت فيه. كأني اسعى إلى الامتلاء بالحشود والأحداث لأملاء الزمن الفارغ بداخلي. كانت القنابل المسيلة للدموع، والتهديد بضرب الرصاص أهون بكثير من الهوَّة الزمنية التي تزحف علىَّ لتبتلعني. أعتقد أن كثيرًا ممن يُطلق عليهم ثوار ويمارسون التظاهرات والاحتجاجات بشكل مستمر وغير محسوب حتى أنهم ليحولون تأريخًا معينًا قام فيه البلطجية بحرق المنشآت إلى ذكرى ثورية ويحاولون إحياءها بالنزول إلى الميادين مرة أخرى برغم الخراب المحتمل والأكيد في بعض الأحيان.. هؤلاء واقعون لا محالة في أزمة العلاقة مع الزمن، أصبحت الثورة عند بعض الأفراد مخدرًا ما فلا يمكن لفعل على الإطلاق أن يُجدي دون انتظار نتائجه، دون تحمل الزمن في حالة انتظار.

الانتظار. فعل مؤنث وأنا بوصفي هذا أعطيه مزيدًا من القوة فـ (بانيلوبي) وهي التي انتظرت زوجها (أودسيوس) عشرين عامًا وأمضت الوقت في فعل عبثي، فادّعت أنها ستعد أولا ثوب الزفاف، وراحت كل ليله تنقض ما نسجته في النهار حتى لا ينتهي هذا الثوب.. .واستمرت في هذا الجهد المضني كل يوم وليله بلا ملل أو كلل، لتفوت على خطابها الفرصة تلو الفرصة حتى يعود أودسيوس، هذه البينيلوبي هي التي أوتيت من القوة ما اندهش له جميع الرجال الذين تقدموا لخطبتها.

“القدرة على العبث أصلاً هو القدرة على الحياة”، هذا الفعل العبثي لسيزيف صاحب الصخرة هو فعل الحياة في نظر خوسيه مارمول الشاعر والمفكر الدومينيكي.

أذكر فتاة جاءت إلى جلسات السايكو دراما منهارة حيث كانت تعمل في إحدى القنوات الفضائية، وتأخذ راتبًا مميزًا لاتحلم به فتاة في سنها، ولكنها عندما وجدت أن ما تفعله غير مهم (عبثي) في مجال عملها، وكانت تحرر خبرًا غير مهم، ثم تنتظر بالساعات حتى يأتيها خبر آخر أو لا يأتي، كان ذلك في أيام الموات السياسي في مصر قبل ثورة 25 يناير.. هذه الفتاة انهارت وتصدعت من الداخل لأنها لم تكن تحتمل فعل الانتظار،” فعل ألاَّ تفعل شيئًا حتى يحين موعده ” ولم تكن تقوى على إمضاء الوقت بشكل عبثيّ على حدِّ قولها.

أنا أيضا كنت لا أطيق ثرثرة النساء عن طرق الطهي الجديدة والموضة والأثاث..إلخ، إلى أن فقدت القدرة على الكلام والفعل فأدركت أن الثرثرة والتفاهة والتفاصيل التي بلا معنى هي القدرة بعينها على أن نحيا، أختبر الآن قدراتي النفسية بمشاهدة فيلم كوميدي تافه والاستمتاع به.

• مقالات
• أوراق