استلاب

استلاب

بثينة الدسوقي

اللوحة: الفنان الإنجليزي فريدريك لايتن 

عندما تصبح مراقبة الآخرين.. حياة كاملة

قريباً سأنجو من ذاتي.. وأفلح في الحياة مع الآخرين.. ذلك أن الحياة وحيدة مرادفة للموت

أحادث نفسي.. لا بأس من بعض الهمس لأسمع صوتاً

في طريقي إلى بيتي الواسع.. وكلي شغف لألقاني وأنفرد بي بعد غياب ساعات العمل الطوال.. أعود محملة بأشياء أحتاجها وأخرى لا أحتاجها.. كنت شاردة الذهن وقت شرائي.. أنا شاردة الذهن دوماً على أية حال

الوقت متأخر وجبل من تعب فوق أكتافي.. والمصعد يبدو من بعيد معطلاً.. أنادي سيد البواب.. مرات ومرات حتى يرد.. يخرج متثاقلاً من حجرته التي تضمه وأسرته.. يتثاءب.. ويسأل عن الوقت، أسأل بصبر عن المصعد فيبدأ برواية لا أريد سماعها عن تعطله صباحاً بينما ولد وبنت من الجيران معاً بداخله.. وكيف أنه جاء على صوت الضحكات الخليعة.

يضحك.. وتتدلى شفتيه للأسفل.. وهو يعيد رواية الواقعة.. ولكنه يصمت عندما يسمع صوت زوجته.. أنظر للأسفل.. ألمح من فرجة الباب امرأته تنتظر عودته

يحاول سيد الهرب عندما يتذكرها لكني أحاصره ليحمل الأكياس عني، يصعد ساخطاً أمامي، وتناديه المرأة مجدداً ألا يغيب.

سيد كالباب في عرضه وطوله.. وله من الأطفال خمسة يقيمون جميعاً في حجرته الصغيرة.. لكنه ينجح في إرسالهم كل حين لشقيقه البواب في عمارة مجاورة.. ليختلي بها.. بينما هناك أياماً أخرى يتضاعف الصوت في مدخل البناية ويكثر الأطفال.. فأفهم أن شقيقه يطالبه برد الجميل,

يصعد سيد ببطء، والمرأة في الأسفل تترقب عودته.. لا أدري لماذا لا أتخيل سيد كرجل يمكن ان يغازل امرأة، تتتابع أمام عيني الصور.. سيد يمشط شاربه بيديه ويبتسم بينما امرأته ترتدي قميصاً لامعاً كبطلات الأفلام الشعبية.. أضحك.. تضحكني أحياناً خيالاتي.

يضع سيد يده على درابزين السلم وهو يهبط مسرعاً إلى الأسفل واضعاً طرف جلبابه بفمه وتاركاً الحقائب أمام الباب وملقياً إلي ب”سلام عليكم” قوية حاسمة.

لا أدري كافة تفاصيل الليلة، فكل الليالي تتعاقب علي كتعاقب قطيع ثيران هائجة فُتح أمامها فجأة باب محبسها.. ذلك القطيع يطأني كل ليلة.. يدهسني، ويتركني وقد امتلأت جروحاً وكدمات، انتهى بي الحال جالسة أرقب الشاشة الكبيرة بسأم مكرر بعد سكون الأصوات جميعاً في الحي الهادئ الذي أسكنه، أنتبه على صوت الهاتف فألتقطه بشغف، عادة.. لا يتذكرني أحد، وعادة لا أتذكر احدًا، وعادة.. يتصل بي خالد في وقت محدد.. ولا أظنه يفعلها ويأتي على إرباك مواعيده بمكالمة هاتفية لي، وعادة.. لا أحب إرباك مواعيده ومفاجأته بمكالمة.. وخاصة أني لا أحب تلك النبرة المقتضبة التي تستعمل بهدف إنهاء الحديث، أحادث نفسي، لقد تقلص ما بيننا إلى مكالمة موقوتة. 

جاءني على الهاتف صوت قديم لم أسمعه منذ زمن.. شيرين تدعوني لحضور حفل زفافها الثاني في أحد الفنادق، أتذكر ملامحها الجميلة أثناء حديثنا الضاحك.. الحق أن شيرين إنسانة رقيقة طيبة القلب تستحق من هو أفضل من عاصم زوجها الأول ألف مرة على الأقل، شيرين التي تبلغ من العمر ستة وثلاثين عاماً كانت تغرد في سعادة وهي تخبرني عن زوجها الجديد وتؤكد أنها لن تضيع وقتاً وستنجب عدة أطفال بلا فواصل لأنها وكما قالت تلعب في الوقت الضائع.. ضحكت كثيراً وتمنيت لها السعادة من كل قلبي، تمنيت لها السعادة حقاً حتى بعد انتهاء المكالمة ظللت أتمنى لها السعادة.

لم تكن كلمات مجاملة لأنها صديقة رقيقة.. بل كانت كلمات من قلبي الخالي من كل شيء.. لم ينتبني إحساس غيرة رغم أني أهل للحقد لا للغيرة فقط، فأنا معطلة، زوجة معطلة موقوف تنفيذ زواجها، لقد اختار خالد السفر.. ووعدني ألف مرة ومرة بأن يرسل في طلبي حالما يستقر.. لعله لم يستقر، لعل ثمانية أعوام غير كافية لأحدهم أن يستقر، لا أعرف لماذا لا أشعر بمرور هذه الأعوام كلها.. يخيل لي أني لا أرغب كثيراً بمرافقة خالد، أو أني اعتدت وجوده شهرا واحدا كل عام.. شهر نحاول فيه إثبات كل شيء.. ولكننا عادة ما نفشل في إثبات أي شيء!

نحن لسنا عاشقين، ولسنا أسرة، ولسنا أب وأم، لسنا إلا زوجين ارتبط مصيرهما معاً.. إنني أبقيه لئلا أصبح مطلقة.. وهو يبقيني ربما.. لأني صرت أحد ثوابت حياته.

تؤكد شقيقته الوحيدة حين تلقاني كل شهور بعيدة أنه تزوج في بلده البعيد وأنني يجب أن أنتبه.. وأضحك لكلماتها.. فتبتئس، أضحك لأن ذلك الهاجس يساورني.. بل يسكن رأسي منذ العام الأول.. بل لعله من طول الأمد تحول في عقلي من هاجس إلى حقيقة مؤكدة، حقيقة لا أفعل حيالها إلا الصمت.. ولكن لا يهم.

….

ذهبت وحدي.. لأن خالد بالطبع غير متوافر، أعددت نفسي للقاء الصديقات بفستان جديد للسهرة.. وابتسامات.. وذهن مستعد للهجوم والدفاع في آن واحد.. وكذلك راجعت إجاباتي المحفوظة على أسئلة ثقيلة مكررة باردة خالية من الذوق تشق جدران الخصوصية بمنتهى القسوة والعنف.. أسئلة أرغمني تكرارها على تجنب كل شيء وكل أحد أعرفه ويعرفني.

لم أسأل يوماً إحداهن لماذا لم تنجب.. لماذا تعمل.. لم أنصّب نفسي جلاداً ولم أضع إصبعاً في حلق أحد حتى يجيب، لكن الجميع لا يتورع عن سؤالي، ربما لأني صامتة قليلة الحديث.. هل علي أن أكون امرأة شرسة تبدأ دوماً بالهجوم؟؟!!

دخلت مع رقصة البداية التي بدا فيها العروسان يرفرفان من السعادة وحيتني والدة العروس المتأنقة بقبلة لم يتلامس فيها وجهانا كعادة النساء.. وقفت تائهة للحظات أبحث عمن يوجهني لمائدة الصديقات.. ولكني تذكرت أنه لن تكون هناك مائدة للصديقات.. فقد استقلت كل واحدة مع زوجها بمائدة.. ولهذا فقد انزويت في ركن بعيد أرقب الجميع وأبحث عن مكان.

لفت انتباهي بكاء طفل بصوت عال تفوق على الموسيقى التي يتراقص على أنغامها العروسان.. ورأيت علياء تحاول إسكاته وهي تنظر نظرات غاضبة لزوجها المستكين.. أتذكره.. كان دوماً كائناً هلامياً صامتاً، لعلها تنهره.. ربما أن والدته تقاعست عن العناية بالطفل طوال وقت الفرح.

لا أعلم عن حياة علياء أو غيرها الشيء الكثير.. صارت الصديقات أسماء في ذهني وتقلصت أدوارهن في حياتي حتى أن بعضهن كان لقائي الأخير بها منذ سنوات.. صرن صوراً باهتة في ألبوم يستقر في درج بعيد من أدراج مكتبتي

شيرين تبدو سعيدة.. ويبدو زوجها رجلاً وسيماً.

خالد وسيم هو الآخر.. ربما أكثر وسامة، ولكن ليس بالوسامة وحدها يحيا الإنسان!

أعود بنظري لمائدة علياء لأجدها اختفت.. بينما زوجها يحمل الطفل المشاغب على كتفه واقفاً.. يبدو كالتائه.. ونظره يتجه إلى حلقة الرقص.. آه.. إنها علياء تؤدي رقصة ساخنة بفستانها المكشوف ويلتف حولها الرجال، لطالما كانت تحب الرقص.. بل الظهور ولفت الأنظار

تساءلت عن طفلها الأكبر.. لعلها لم تشأ أن تصحبه لئلا يخمن أحد عمرها الحقيقي.. لعلها تركته وحيداً.

في حجرة نومها الزاعقة اللون ذات الفراش الواسع.. جلست تزيل أصباغ وجهها بعصبية بالغة بينما هو يحمل الطفل الصارخ:

ـ لم أكن أعلم أنك تغار.. منذ متى أيها الغضنفر؟.. أنت فقط تحب النكد مثل عينيك

ـ ليست جريمة لو أني غِرت عليكِ من نظرات الآخرين.. إنك أم وزوجة.. ألا يكفي هذا الفستان الفاضح؟ ألا يكفي أنك ترفضين الحجاب رغم اقترابك من الأربعين؟ ألا تضايقك تلميحات أمي؟ 

ـ أمك أمك أمك.. لقد جننت يوم أن تزوجت وحيد أمه.. إنك تريد أن تتزوج جارية بلا شخصية.. أيضايقك إعجاب الآخرين؟!! لا أفهم حقاً.. يجب أن تكون فخوراً بأنك زوج لسيدة جميلة.. صحيح..ناكر للنعمة وللجميل

ـ حبيبتي إنها غيرة عليكِ ورغبة في الحفاظ عليكِ

ـ رغبة في ماذا؟

ـ رغبة فيكِ..

ـ نعم.. هذا ما أريد سماعه الآن بعد السهرة الرائعة.. أتذكر يوم زفافنا؟

ـ طبعاً يا حبيبتي

ـ كنت أجمل من شيرين.. أليس كذلك؟

ـ نعم.. مليون مرة

يعلو بكاء الطفل مجدداً

أعود إلى الحفل وقد انتهت علياء من رقصتها وعادت تضحك لزوجها وصدرها يتأرجح أمامها.. لطالما كان صدرها جميلاً.. مالي وعلياء.. هززت رأسي أنفض خيالاتي وأقلب بصري بين الحاضرين، الحفل يعيدني لذكرى يوم زفافي حيث كنت وسط أناس كثيرين أهتم بهم ويهتمون بي.. لا أعلم كيف سُطرت على حياتي تلك الوحدة.. لا أعلم كيف انتهى بي الحال أرضا جرداء بلا زائر، أكره ما يفعله بي هذا الجمع.. إن الحياة تسير بي بين عمل صامت وأمل منتهي بسلاسة معتادة لا يؤرق صفوها غير مثل تلك الاحداث.. حفل.. أو حادث وفاة.. أو عيد!

يأتيني صوته من الخلف خافتاً: هبه..

ألتفت لأجد هشام واقفاً خلفي ببذلة داكنة حاملاً كأسين من العصير في يديه..

هشام.. خطيبي الأول.. كم صار سميناً وتراجع شعره كثيراً للوراء.. أبتسم في مكاني فيضع الكأسين ليمد يده بالسلام الدافئ

ـ ماذا تفعلين هنا؟ هل تعرفين عصام؟

ـ عصام؟!!! تقصد العريس؟ لا.. إن العروس صديقة قديمة..عاصم وعصام.. شيرين لم تبتعد كثيراً.. أهمس لنفسي

ـ لا أصدق أني التقيتك.. إنها أجمل مفاجآت حياتي.. 

ـ كنت ومازلت مبالِغاً.. كيف حالك؟

ـ أنا بخير.. جميلة أنت كما كنتِ..

ـ أين زوجتك؟

ينظر إلى كأسي العصير ويشير إلى مجموعة سيدات على مائدة بعيدة: إنها ذات الرداء الأزرق.

جميلة.. بيضاء.. سمينة مثله تماماً ولكنها ترتدي الماس بكثرة بحيث لا تظهر ملامحها وسط البريق.. ذلك الماس الذي كان سبباً في افتراقنا.. أضحك كثيراً في أعماقي.. أضحك من تفكير أبي الذي حدا به لرفض هشام رفضاً قاطعاً كزوج لي لمجرد أنه أراد إحضار شبكة ذهبية متوسطة القيمة لرقة حاله وقتذاك، لم أحزن لافتراقنا وأطعت أبي في هدوء.. ليس رغبة في الماس.. ولكن لغير رغبة شديدة في هشام.

عجيب ما تفعله بنا الأيام.. وعجيب ما يؤول إليه حال البشر.. يبدو لي هشام موسراً.. أعترف أني لم أفكر يوماً بالمال.. بماذا كنت أفكر؟ لا أعرف.. يشق علي الأمر عندما أحس بالتيه.. أنظر للخاتم الماسي.. أقلبه في يدي.. والسوار.. ألمس العقد الماسي المستقر على جيدي في ألم.. لقد جاء خالد بكل هذا بلا تردد.. تتسع ضحكتي، لم أطلب أنا أو أبي من خالد شيئاً.. لكنه أتى بالماس، وذهب.

يبدو لي هشام منفراً.. لا أدري كيف تملّك مني هذا الإحساس حتى أني نفرت من نظراته، زوجته السمينة تتدلل.. يصيبني القرف من تخيُلها تفعل ذلك وكأني أشاهد فقرة من فقرات عالم الحيوان.

ـ لم تئتني بهدية عيد ميلاد الولد.. قرط ماسي كما اتفقنا

ـ بل قرط وسوار لأحلى زوجة في العالم

ـ وللولد.. ماذا ستجلب له في عيد ميلاده؟ لا أريد أن يظن أهلي انك بخيل.. قبلات

ـ ماذا تريدين يا عزيزتي؟

ـ شهادة بنكية باسمي.. لئلا تمتد لها يديك في أي وقت.. أعني لتأمين مستقبله، يجب أن ننظر للمستقبل دوماً

ـ طبعاً يا حبيبتي طبعاً

لعل هذا هو ما كان يجب أن يكون.. لعلي غبية.. لعلي أهذي.. أدير رأسي فلا أجد هشام.. وألمحه هناك واقفاً بأدب خلف زوجته اللامعة.. لا أدري كيف انصرف.. أتمنى ألا اكون أسأت التصرف معه.

تلمحني إحداهن من بعيد فتشير إلي ضاحكة.. لا أتعرف عليها للوهلة الأولى.. وعندما تقترب أدرك أنها تهاني.. يا إلهي.. أهذه هي تهاني؟!!! 

نتعانق ونتبادل كلمات المجاملة والنفاق عن روعة كل منّا.. تنادي أحدهم وتعرفني به.. زوجها.. يبدو الرجل غير مستقر في نظراته.. ويبتسم ببلاهة وهو يمد يده ليحييني.. نظراته تتبع إحدى الجميلات البعيدات التي تبادله النظرات.

تدعوني تهاني للجلوس معهم فيستأذن زوجها مقبّلاً إياها وهو يهمس في أذنها.. ترسل هي ضحكة عالية بينما تلتفت إلي لتبدأ سيل أسئلة أدرك أن موعدها تأخر كثيراً منذ دخولي هذه القاعة، ألمح الزوج يتبع الفتاة إلى الخارج.. فأبتسم لتهاني، وأنظر إلى ملامحها التي لا تكاد تبين تحت وطأة المساحيق. 

ـ أنت حقير.. وليس هذا بجديد عليك

ـ لاحظي أني لا أطيق اللسان الطويل

ـ لقد فضحتني في الحفل.. لقد لاحظ الجميع سعيك وراء تلك الفتاة 

ـ من فضلك.. إنها فتاة محترمة وكانت تريد استشارة قانونية

ـ استشارة قانونية في كافيتريا الفندق؟ أيها الكاذب

ـ فعلاً.. لم تكن استشارة قانونية.. كنت أغازلها.. هل استرحت؟ هل في وسعك شيء؟

ـ أيها الحقير

ـ بل أنت الغبية.. انظري لنفسك.. انظري كيف تبدين أكبر من عمرك بسنوات.. ألم ترين صديقاتك كيف يتحركن وماذا يرتدين؟ إنه حظي التعس

ـ حظك التعس يا زير النساء لا أريد البقاء معك

أسمع صفعة تدوي بقوة على وجهها

….

تجحظ عيناي وأنا أنظر لتهاني

فتفزع وتسألني: هل تريدين كوب ماء؟ ماذا بك؟ هل هناك شيء؟

أعتذر بان القاعة خانقة وأني بحاجة للهواء.. أذهب متعثرة في حذائي العالي وفستاني الطويل.. أركض إلى الخارج.. ألمحه يتهامس مع الفتاة أمام باب القاعة 

تختلط علي الأمور فأهرب إلى بهو الفندق، أحاول أن أستجمع نفسي.. وأن أطرد خيالاتي التي أوقن من صحتها.. أرفضها وأخشاها.. ولكنها تأبى أن تتركني لحالي

أصحو من نومي على ذلك الألم يعبث بأحشائي.. لا أحتمل، تساورني أحلام مشوشة عن حفل زفاف شيرين.. رغم مضي أيام إلا أني ما زلت أحيا أحداثه.. ربما لقلة ما يمر بحياتي من أحداث.. ربما لأني رأيت أزواجاً وزوجات وقد نسيت ما يعنيه هذا، نسيت معنى أن يكون هناك من يرغب بي.. أو يغازلني.. أو يسترضيني.. أو يعانقني.. نسيت أن أغضب وأصرخ وأحتج وأحذّر وأن أحيا مع خالد كل المشاعر من أقصاها إلى أدناها، نسيت كيف أبدو كزوجة بعد أن تحولت مكالماتي الموقوتة معه إلى موجز لأهم الأنباء.

الألم يعاودني فأرقد في فراشي.. أتذكر أنني أكبر شيرين بعامين.. وأتذكر أني لم أنجب بعد لغير سبب واضح.. الألم يعاودني، الألم يحيا بداخلي ساعات فأتذكر أن هذا الجزء من جسدي مهجور كصحراء.. بعيد كقمر.. وضعيف.. كطفل لم يتكون فيه قط، الألم يحاصرني فأقاوم رغبتي في تجاهله.. وأرتدي ملابسي لأذهب لطبيب

أيام طويلة كالأمد أحياها وحدي في عذابات الظن.. تلك العذابات التي جعلتني أحيا كوابيسَ دائمة بلا انقطاع.. لم أر في امرأة سيد الزاعقة في جوف الليل ما يلهيني.

لم تشغل بالي تهاني أو علياء أو ليلى أو أياً منهن.. كلهن يحيون حياة غير منقوصة.. كلهن كاملات.. إلا انا..أنا.. يجب أن اهتم لي من الآن فصاعداً.. يجب ألا أفكر إلا بي.. تلك الفتاة التي كنتها منذ زمن.. وذابت كقطعة جليد عندما لفحتها الحياة بوحدة حارقة، لو أنني كنت أكثر جرأة.. لو أنني فقط لم أخش كل البشر، لو أني لم أقم حواجزاً طبيعية كترجمة لمخاوف زرعها خالد برأسي حول سيرة أي امرأة وحيدة في مجتمع لا يرحم.

يرفض الطبيب أن يبت في الأمر سريعاً.. يقتلني مئة يوم.. مئة يوم كاملة قبل أن يقرر انتزاع جزء مني، إنه استلاب لما ظننته موجوداً للأبد بلا انتفاء أو انتهاء.. استلاب سريع يرغمني الطبيب عليه مؤكداً دوام خصوبتي بعده فحكمة الله أن يخلق للأنثى مبيضين، صرخت في وجهه، ظن أني أصبت بصدمة عصبية لكنها كانت صرخة صحو، صرخة أودعتها كل سخطي على حالي الذي كان.

….

لم يعرف خالد أبداً ماذا انتزعت من جوفي.. ولم يكن ليعلم أبداً.. فما عايشه معي باقي أيام عمري لم يكن ليوحي بفقداني لبعض خصوبتي.. لقد حاولت بكل قوتي استرداد ما سلبته مني سنوات الغفلة وأظنني نجحت..

وأظنني كففت تماماً عن مراقبة الآخرين.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s