اللوحة: الفنان السوري إسماعيل أبو ترابه
لم يكن لدى جداتنا وسائل الترفيه الموجودة لدينا حاليًا وكان الخروج والتنزه يحدث في أضيق الحدود، أو لايحدث، ومع ذلك كن يدرن الوقت ـ الزمن ـ بمهارة لا نملكها نحن النساء المشغولات، المنهكات بين العمل في الخارج وداخل البيت. أعتقد أننا انفصلنا عن أُنثانا الداخلية، الأنثى التي أعدتها الطبيعة للانتظار، فأنا لم أجلب ابنتي إلى الحياة إلاّ بعد تسعة أشهر كاملة ولم يكن من الممكن أن أفعل شيئًا سوى الانتظار.
أغلب وسائل الترفيه التي تُبتدع كل يوم ما هي إلاّ حرب مع الزمن، محاولة لقتل الوقت طوال الوقت.. أتشاجر مع زوجي وابنتي حين أجدهما جالسين على لعبة من ألعاب الكومبيوتر لإزاحة الملل.
يرى إريك فروم أن طاقة الحياة في الإنسان هي الفرح، وعكسها العدمية أو الموات الداخلي، وأقرب الحالات لهذه العدمية أو الموات هو الإحساس بالضجر والملل وهذا يحدث عندما يكون الإنسان غير قادر على الانجراف مع الزمن. ذلك الانجراف مع حركة الزمن، لا نستطيعه ـ فقط ـ عندما نجد ما نفعله ويحركنا مع الحركة الزمنية، بل أيضاً نستطيعه مع توقف ذلك الفعل، بشرط أن يتحرك الباطن لدينا.. تلك القدرة على الجدل بين الداخل (داخل الإنسان) وخارجه، إنه فعل التأمل.
إن فعل الانتظار لدى الذين يعانون شللًا باطنيًا هو انعدام مؤلم وهزلي للزمن، إن الشعور بحركة الزمن ومروره هو لب الشعور بالحياة لأن الزمن هو محددها الرئيسي. إن الذين يتجمد الزمن لديهم يشعرون بعدمية لا تطاق.
الزمن والعالم وكل الأشياء، تتوقف إذا توقف باطن الإنسان وأُصيب بالشلل، ولم يعد قادرًا على الحركة، على التأمل. إذن كما ذكرنا، هناك حالات من الانتظار تؤدي إلى انهيار صاحبها إذا كان مصابًا بذلك الشلل الباطني، وليس الحل هو قتل الوقت بطرق التسلية الميتة من ألعاب التكنولوجيا الحديثة أو الكوتشينة وخلافه، ولا حتى بما يشغلنا عن أنفسنا. ففكرة الانشغال هذه هي آفة العصر حيث أنها الهرب المستمر من دواخلنا.
لا أمل في سلام الإنسان وفرحه إلاّ بالاقتراب من ذلك الداخل (داخله) ومحاولة تحريكه مع البشر (التفاعلات الإنسانية) وفي الفن ومع الطبيعة.
ولا أتصور أن الداخل لدى الإنسان يمكنه أن يتحرك بشكل حقيقي إلاَّ بفعل التأمل، والذي يؤدي إلى تفتيت البؤرة العدمية داخل الروح.. كيف؟
إن فعل التأمل يكسر الجمود الذي بداخلك، يحرك الساكن الصنمي في رأسك، فأنت خلال هذا الفعل تنفصل عن الفكرة التي اعتقدتها، تضعها أمامك وتظل ترقبها. في هذه الحالة، وبما أن الفكرة انفصلت عنك، ولم تعد متماهيًا معها، أي لم تعد هي أنت.. لاتعصُّب ولا عصبية، لا توقُّف للروح على عتبة واحدة، ومن ثمَّ لا جمود يؤدي بك إلى العدم، فحركة الأفكار رائحة غادية أمامك، ومراقبتها بشغف هي نشاط ذهنى وباطني لايتوقف معه الزمن.
مع التأمل ليس هناك معنًى ثابت للحياة.. إن اليقين العقلي مهلك للروح لأنه إذا حدث تحول أو انحدار أو كسوف للمعنى على نحو ما يرى (تيري إيجلتون) في كتابه معنى الحياة، تتحول الحياة إلى تراجيديا عنيفة، ففلاسفة وكتاب وأدباء الحداثة والذين كانوا يمتلكون تصورًا منطقيًا منظمًا ومنضبطًا عن العالم وقعوا في التشاؤم والبؤس، حيث أنهم أدركوا أن هذا الانضباط والتنظيم والوضوح المنطقي سرعان ما يتلاشى مع الحركة الزمنية، فالحياة هكذا لامنطقية ولا عقلانية وعلى قدر كبير من الغموض. إذن فالتأمل هو محاولة الكشف عن هذا الغموض، إنه حركة للأسفل، لسبر الأغوار، للبحث وراء الظاهر، حركة غوص كبيرة تحرك الساكن والعدمي ولاتترك مجالاً للموت النفسي، وتوقف الإيقاع الداخلي للزمن.
مع التأمل ـ أيضًا ـ ليس هناك معنى وحيد.. فالتأمل هو تعدد المعاني التي لا يلغي بعضها بعضاً، بما أنه الحفر وإيجاد طبقات وطبقات من المعنى الظاهري الواضح. لذلك فالمتأملون غير متشبثين بمعنى ظاهري واحد يفقر الروح ويجمدها عند نقطة زمنية واحدة.
في التأمل ليس هناك معان مقدسة، فالمتأمل يدرك جيدًا أنه هو من أنتج المعنى، ولم يأته جاهزاً من قوىً علوية، وبذلك يصير أكثر مرونة واستيعاب واتساع. إن فعل التأمل يوسع الروح، يثريها فلا تقع في الخواء الذي ينعدم فيه الزمن.
من يستطيع الاستمتاع بالوقت دون فعل أي شئ؟
جدتي..أراها جالسة تتشمس على سطح البيت دون أن تقوم بفعل شئ.
هذا الوجود الموجود بذاته والذي لا يحتاج أن يفعل حتى يكون، لأن الداخل ثري بالأحداث التي وقعت خلال عمره الزمني، ومتحرك لأنه في حركة تأمل مستمرة. هكذا كانت جدتي تضع مواقف الحياة التي عاشتها أمامها، وتتحرك بها صعودًا وهبوطًا وتتقلب بين معانيها.
أما إذا كان هذا الداخل ساكنًا وعدميًا وليس لديه قدرة على التأمل، فكيف نملأه؟ أعتقد أنه بالإيقاع الزمني للحياة في الخارج.
في إحدى حلقات البرنامج قال المعلم الروحي لصاحبة الوجود المثقوب والتي كانت تنظر إلى عقارب الساعة فتشعر بالموات، قال لها أن تتابع مسلسلًا تليفزيونيًا في موعد محدد كل يوم. المغزى هو أن تضع علامات للزمن.. الإنسان وضع دائمًا علامات للزمن، فكانت المواسم والأعياد، وغير ذلك من علامات الزمن. سيلان الزمن بداخل الانسان دون وضع علامات له قاتل للروح.
“والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها”.
لم يكن القسم الإلهي في الآيات القرآنية بالليل والنهار وبالشمس والقمر وكل هذا التأكيد على العلامات الزمنية مجرد وصف للقدرة الإلهية، بل تشير تلك الآية بالتحديد على وجود علاقة وثيقة بين النفس البشرية وعلامات الزمن. وتلك التقوى وذلك الفجور مرتبطان إلى حد بعيد بعلاقة الإنسان بتلك العلامات الزمنية.
حكى لي طبيب نفسي عن فتاة كانت تجلس على سور الحديقة في الجامعة لتنتظر زملاءها عندما يخرجون من المحاضرة، وكان إذا مرَّ عليها شاب لا تعرفه وأشار إليها أن تأتي معه إلى شقته كانت تذهب معه دون تردد. مع الجلسات النفسية والعلاج أدرك الطبيب أن تلك الفتاة لديها مشكلة مع الزمن، لا تستطيع تحمله دون أن تفعل شيئًا ومستعدة دائماً لقتله بأي فعل من الأفعال. عندما أدركت الفتاة تلك الفكرة رضيت بكل تدريبات الطبيب النفسية، حتى وهي التي لا تقوى على الانتظار لمدة ربع الساعة، وافقت الطبيب على أن تُحبس منفردة شهرًا كاملًا داخل حجرة في مصح نفسي، وعندما عادت إلى الحياة عادت فتاةً أخرى.
يقول كازنتازاكس في روايته (الحديقة الصخرية) وفي وصف المسافرين في عرض البحر: “ولما كان جميع المسافرين يتعفنون، لم يكن أحد يقاوم التعفن سوى هؤلاء المسلمين”.
لقد ربط كازانتازاكس ركوع وسجود المسلمين الهنود على ظهر المركب كل صباح عند الشروق وكل مساء عند الغروب بالإيقاع الشمسي، فوصف أرواحهم بزهرة دوار الشمس تتبع رحلة أبينا الذي في السماء.
ذلك الإيقاع الزمني الذي احتفظوا به في داخلهم هو الذي أنقذهم من الموت ضجرًا ووهنًا وفراغًا، كما حدث لبقية الركاب الذين هربوا من الوقت السائل في عرض البحر بالمضاجعة والسكر والمجون فانتهى بهم الحال إلى وجوه شاحبة ميتة من الضجر.