سندس وجيه
اللوحة: الفنان المصري وليد عبيد
نصوص لشباب واعدين في مقتبل الكتابة
صبيحة كل يوم يقف البشر ينتظرون حين تهبط الأرزاق من السماء، مع أول إشراقة تلمس فيها الشمس بألوانها الذهبية الأسطح والشوارع، تُفتح أبواب كل البيوت ليخرج من يبحث عن لقمة عيشه، فيبدأ بائع الحليب ُيضج ُبصوته “حليب.. حلييب”، وطابور الخبز قد ازدحم بالناس يتدافعون عليه، ومن بين كل ذلك يتدافع الصغار المتجهين لمدارسهم ومنهم انا “وائل”، ولدت في عائلة تكسب لقمة العيش يوما بيوم، وتنام مطمئنة الأجفان، أبي رجل ختم الزمن على وجهه بتجاعيد الكد والتعب، لكنه كان قوي النفس عزيز الكرامة، دائما ما يوصيني: وائل، تفوق في دراستك واجتهد، فإن كدك فيها سيكتب لك الحياة الكريمة، ولا تستسلم إذا قلت أبواب الرزق، فالله لا يخلق خلقا ويضيعه.
لقد كانت لهذه الكلمات جرس يجلجل في أذني كلما ذكرت أبي في طريقي لمدرستي، وزادي في طريق عودتي مارا بورشة النجارة التي يعمل بها، وفي يوم عند عودتي من المدرسة، مررت بورشة أبي، فإذا به يتألم بشده والرجال يحملونه إلى الإسعاف، ركضت اليه وكلي هلع، كعادته ابتسم وقال لي: ألم بسيط في جنبي، لا تقلق يابني.
حملوه الى السيارة وركبت معهم الى المشفى الذي شخص حالته بالفشل الكلوي، اعتصرني الحزن والخوف على أبي، وسألت الطبيب: هل الإنسان الذي تفشل كليته يمكن أن يعيش؟ قال: اطمئن يا بني، أبوك بخير، أعطه الدواء وسيتحسن بإذن الله.
شعرت أنه يطمئنني فحسب، انطلقت والدمع ينهمر من عيني، والسؤال ينهش عقلي: هل سيتحسن ام لا، مسحت دموعي حتى لا تراها أمي، دخلت بيتنا المتواضع، وسدت ابي فراشه وخرجت لأحضر الدواء، تفاجأت بثمنه المرتفع الذي لم يكن بحوزتي، فأطرقت حائرا، ماذا أفعل؟ في تلك اللحظة ناداني الصيدلي قائلا: لم أنت حائر متردد هكذا يابني؟ ألك حاجة؟
قلت: إن والدي مريض ودواؤه مكلف، ولا أملك كل ثمنه الآن، قال: لا بأس، ادفع ما معك ويمكنك تقسيط الباقي، تعجبت فرحا وقلت أحق هذا الكلام؟، قال نعم، سأضع اسمك هنا في قائمة المدينين للصيدلية، وعليك إحضار القسط الأول بعد عشرة أيام.
عدت إلى البيت أركض فرحا، دخلت إلى أبي مسرعا، أعطيته الدواء ثم دنوت من رأسه وقبلته قائلا: لا بأس عليك يا أبي، ستعود لتقود سفينة بيتنا أقوى وأفضل حالا، ابتسم لي قائلا: الحمد لله على أية حال، أنت رجل البيت بعدي يا وائل.
مر اليوم ونحن بجانبه أنا وأمي نترقبه ونتلمس أيطلب شيئاً؟ وفي المساء، بدأت استعد للنوم وافكر كيف سأرد دين أبي علي؟ خاصة وهو عامل باليومية، إن لم يذهب لعمله لن يحصل المال، تذكرت صديقي وجاري “عمر” يتيم الأب يساعد أمه في إعالة إخوته ببيع الجرائد، قي فجر كل يوم أراه يخرج ليبيعها ثم يحضر إلى المدرسة، فكرت بالعمل معه حتى أوفر بعض المال، حسمت الأمر وفي اليوم التالي استيقظت مبكرا لصلاة الفجر وقصدت عمر بعد الصلاة، وطمأنني بأني أستطيع العمل معه من الغد..
انتهينا من الجرائد وذهبنا للمدرسة، ولما عدت إلى البيت استقبلتني أمي وهي قلقة، فقد خرجت من الفجر ولم أعد حتى الآن، تجاهلت أسئلتها متعللا بقلقي على أبي، ذهبت لغرفة والدي اتفقده وجدته جالسا ثم بادرني كعادته بالسؤال: يا بطلي كيف حال الدراسة اليوم؟ واخذ يحدثني وأحدثه ثم استأذنته لأداء واجباتي.
مر أسبوع وأنا أراوغ أمي وأتعلل بما لا يقنعها، واستطعت أن أجمع بعض المال يكفي لسداد القسط الذي ادخرته عند عمر، ذهبت لآخذه منه وأعطيه للطبيب، وفي طريقي مررت ببعض الأولاد الاشقياء الذين اعترضوا طريقي وحاولوا سلب المال مني، كانوا يكبرونني عمرا لكني لم استسلم فهذا المال لدواء ابي، تشاجرت معهم فضربني أكبرهم على عيني بمجمع يديه فسقطت أرضا وأنا احتضن المال كي لا يأخذوه، وفجأة أتى رجل يركض نحوي قائلا: دعوه ايها الاشقياء، فركضوا خوفا، وقفت واضعا يدي على عيني وبالكاد أرى الرجل، ولما تبينته إذا هو الصيدلاني الذي كنت ذاهبا إليه فمددت يدي بالمال المطلوب فقال لي: يا لك من ولد مثابر، لقد علمت كيف وفرت المبلغ، فمنذ مجيئك أول مرة وأنا أتابعك لأرى كيف تتصرف، رايتك وأنت تدافع عن نفسك مع هؤلاء الاشقياء، وعلمت من بائع الجرائد ما تصنعه، بوركت اليد التي ربتك يا بني، اسمع، أنا في حاجة لأحد أمين يقف معي بعد الظهر بالصيدلية، فإن لم يكن لديك مانع سأستعين بك، وسأعطيك أجرا معقولا، قبلت من فوري وقلت شكرا لك ايها الصيدلي لن انسى معروفك ما حييت.
ذهبت راضيا سعيدا إلى البيت، وما إن فتحت باب بيتنا حتى وجدت عمر جالسا مع أبي، وعلى وجهه تعابير لم أستطع فهمها، بادرني عمر قائلا: لقد أحضرت باقي حصتك من بيع الجرائد هذا الاسبوع فقد حسبته لك بشكل خاطئ سامحني يا صديقي.
نظر لي ابي والدمع يترقرق من عينيه، ثم سألني: ماذا في عينيك؟ اقترب مني، سكت ولم أرد، قال والدي لقد علمت من صديقك عمر انك كنت تعمل معه طيلة الأسبوع في بيع الجرائد ولم أعرف السبب ولكن الآن قد اتضح كل شيء.
قالت امي: اتعني أنه دفع المبلغ المتبقي للدواء من عمله بالجرائد؟
قال أبي وهو ينظر لي نظرة فخر: نعم يا أم وائل.
انفجرت امي بالبكاء وحضنتني بشدة وهي تقول سامحني يا بني لم أعرف أنك كنت تفعل ذلك لأجل والدك لم اتوقع ذلك منك ابدا يا بني العزيز.
قال أبي لماذا فعلت ذلك يا وائل؟ ثم أجهش بالبكاء، كانت تلك المرة الأولى الني أرى فيها والدي يبكي، نظرت إليه وقلت وانا ابكي على بكائه: إذا لم اقف معك يا والدي من سيفعل؟
أنا ابنك الأكبر وساعدك الأيمن إن لم افعل فلا استحقك أبا.
احتضنتني أمي وقبلتني وهي تقول: انت نعم الولد يا وائل.
مرت الأيام والسنون وكبر وائل وكبرت أحلامه التي حققها بعد تخرجه وغير حياة أسرته الفقيرة، فهو الآن طبيب ماهر في مستشفى العيون، وهو مثال عظيم للابن المكافح المجد، والإنسان ذو الخلق والمبادئ.
جميل تسلم يدك🙈💓💓💓
إعجابإعجاب