خالد جهاد
اللوحات من أعمال الفنان ماهر ناجي
المرأة مصدر إلهام للفنانين والشعراء والموسيقيين، والتشكيليين منهم على وجه الخصوص، ولعلها – أي المرأة – تحتل الذاكرة التصويرية في تاريخ الفن التشكيلي بكل صنوفه. ومع هذا تتباين الموضوعات والرؤى الفنية المستلهمة من المرأة حضوراً ورمزية وجسداً، فكثير من التجارب التشكيلية ركزت على جسد المرأة باعتباره أيقونة الجمال البشري، وكثير منها استلهم الوجه الأنثوي وتعابيره كمرآة عاكسة لرؤى الفنان، وتداخلت المرأة بالأسطورة وبالرمز. فهي الأرض والوطن والحنين..
يحتفي الفنان الفلسطيني ماهر ناجي بالمكان ورموزه، بعلاقة الفلسطيني بأرضه، بمقاومته.. بالخصب المتجددة مع المواسم كتعبير عميق عن الفلسطيني الذي ينبت من أرضه كسنابل القمح، بالمرأة.. لكن المرأة في لوحات ناجي تحولت إلى رمز عميق الدلالة.. إنها البطولة بكل صورها.. في هيئتها، ألوانها، ثيابها.. حضورها الذي يصور الحضور الفلسطيني الطاغي على مدى قرن من زمن المعاناة والاحتلال.
مسيرة طويلة قطعها الفنان ماهر ناجي توشحت بالحلم الفلسطيني وتفاصيله الجمالية الحالمة، والتي لا تخلو من حزن أو استدعاء لشخصيات ٍتاريخية وثقافية نفتقدها اليوم، فنرى القدس بشكل ٍخاص تتوج كثير من أعماله، بالإضافة إلى الحالة الفلكلورية الفلسطينية بغناها وتنوعها عبر الأزياء الشعبية للنساء والتي تختلف من مدينة إلى أخرى، وتختلف باختلاف المراحل العمرية والوضع الاجتماعي لكل امرأة كما تناقله التراث عبر الأجيال، فتبدو المرأة بطلةً مطلقة في أعمال ماهر ناجي وتظهر برداءٍ فلسطيني أنيق من الكبرياء والكرامة مستعرضةً تفاصيل إطلالتها وحليها وزينتها لتبدو كأميرةٍ أو ملكةٍ متوجة لا تنحني برغم الآلام والصعوبات، وكأن أعماله بمثابة تكريم ٍ لها عن صبرها ونضالها وتعكس رغبة ًفي جعلها قويةً سعيدة ًعزيزة وتنعم بالحب الذي تستحقه وافتقدته بسبب واقع الاحتلال الإسرائيلي الذي منعها من أن تعيش حياةً طبيعية ومنعها حتى من أنوثتها، فنراها عبر العديد من لوحاته في حالة زهو وسعادة وسط أجواء تراثية احتفالية في البساتين وتحت أشجار الزيتون، ونراها أحياناً تقطف الثمار وتعمل بجد في الحقل وتطعم الدجاج جنباً إلى جنب مع الفلاح الفلسطيني تأكيداً على قوة المرأة الفلسطينية وعملها منذ فجر التاريخ وتوليها مهاماً عظيمة، أو تراها تستريح بين الأزهار في حالة ربط بين المرأة والأرض والشجر والثمر كمنبع للخصوبة ورحم قادر على احتواء الإنسان والشعب وإنجاب الأفراح والثمار والربيع والفرح والأطفال، فوجدت الأم التي تحمل وليدها على ذراعها بفرحة مع حبيبها مع إطلالة على الوطن في عددٍ من لوحاته، تكريساً للأمل الذي لا يموت وتناسخ الأفراح وتوالد الفجر من رحم الظلمات.




ولا شك أن فلسطين هي الملهم الأول للفنان ماهر ناجي؛ فتبدو وكأنها فتاة الأحلام والمعشوقة فترى شيئاً من أثرها في كل لوحاته، وتراها ممتزجةً بالمرأة وبكل ما هو متصل بمعنى الأرض، لكن الجرح الفلسطيني النازف على مدار عقود موجود بقوة ضمن لوحاته في لمسة وفاء للشهداء وضحايا المجازر والاعتداءات الإسرائيلية وأبطال الانتفاضة ومسيرات العودة والشباب الثائر حيث لا ينفصل تقديمه لمعاني الجمال عن ارتباط فنه بقيمة وطنية وإنسانية..
ويلاحظ في أعمال الفنان ماهر ناجي حبه للتاريخ واطلاعه على الثقافات الأخرى فتبدو إحدى لوحاته لسيدةٍ تبيع الحليب من كردستان متقنة التفاصيل، كما وأن فناننا يستعرض نماذج مشرقة لنساء من التاريخ في بلادنا مثل زنوبيا ملكة تدمر وبلقيس ملكة اليمن، كما كان هناك حضور في إحدى لوحاته للملك ملكي صادق وهو أحد أهم الملوك الكنعانيين، كما قام برسم لوحة ٍلآخر ملوك إشبيلية أبو القاسم المعتمد محمد بن عباد بحرفية عالية تؤكد على استحواذ فكرة العمل عليه مما ينعكس على أدائه وحرصه على أدق تفاصيله، كما وأن المتغيرات في المنطقة العربية وحول العالم حاضرةٌ في عملٍ عن بيروت إحدى درر الشرق، وأيضاً تناول أزمة اللاجئين ومخاطرتهم من خلال قوارب الموت وفرارهم عن طريق الهجرة الغير شرعية مستحضراً وجوهاً تمثل رموزاً للاستعمار عبر التاريخ..




وخارج إطار الوطن والمرأة تظل هناك مساحة ٌ خاصة للأزهار في أعمال الفنان ماهر ناجي حيث نراها تزين الكثير من إبداعاته وتبعث الصفاء في النفس، وتبدو كل مرة بحلةٍ جديدة مع نوعٍ مختلف منها يرضي عشاق الأزهار حيث تبدو جميلة وتحمل بصمة فناننا دون تقليد لتجارب غيره من الفنانين، عدا عن وجود مكانةٍ للحب تضفي مسحةً من الرومانسية على نتاجه الفني الكبير.. في مسيرة ٍ تعانق الأنوثة بكل أبعادها ومفرداتها في ثوبٍ فلسطيني يشبه تجربته وريشته الخاصة جداً.
ماهر ناجي فنان تشكيلي فلسطيني مواليد مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين عام ١٩٦٣ حيث نزحت عائلته من قرية السوافير الشمالية في قضاء غزة، بعد إكمال تعليمه الابتدائي والثانوي ذهب إلى روسيا لدراسة العلوم الفنية، وحصل على درجة الدكتوراه في الهندسة المعمارية، ليعمل محاضرًا في كلية الهندسة المعمارية بالجامعة الإسلامية في غزة.
لم تتوقف مسيرته الفنية، وشارك في عدة معارض فنية في كثير من البلدان منها: فلسطين، الأردن، لبنان، سوريا، الإمارات العربية المتحدة، الولايات المتحدة الأمريكية، المملكة المتحدة، بلجيكا ودول أخرى.
يعكف حالياً على إنجاز مشروعين، الأول: توثيق الأزياء الشعبية للشعب الفلسطيني، والثاني: إعادة تقديم حياة السيد المسيح والعذراء بشكل مرئي في سياق البيئة المشرقية التي عاشوا فيها.
