التشكيلية ڤيڤيان الصايغ.. الرسم خلف أسلاك شائكة

التشكيلية ڤيڤيان الصايغ.. الرسم خلف أسلاك شائكة

خالد جهاد

اللوحات من أعمال الفنانة

جرت العادة على أن يكون حضور المرأة في الرسم والفن التشكيلي متمحوراً حول تصوير الأنثى والحالات الشعورية التي تعيشها، ويبدو ذلك منطقياً إلا أن الملفت هنا في تجربة الفنانة السورية ڤيڤيان الصايغ هو أعمالها المتنوعة والمختلفة والمختلطة بحزن الواقع السوري والواقع العربي والإنساني ككل، فامتدت لوحاتها لتشمل قصصاً من فلسطين والعراق وعددٍ من الدول، وتصور الإنسان بوجعه المجرد ودلالاته وذكرياته وافرازاته..

فالمرأة أو الإنسان عموماً في لوحاتها لا يظهر بشكلٍ كامل، بل يظل جزءٌ منه دائما ً مخفياً وكأنه يرمز إلى الجانب المتألم والمظلم فيه ،وكثيراً ما تبدو العيون مغلقةً أو تبدو الوجوه شاردةً كأنها في حالة تأملٍ أو حلمٍ أو شرودٍ أو استرجاع ٍ للذكريات أو ترميمٍ للذات، كما يلاحظ دائما ً أن العينين حزينتان أو مغلقتان أو معصوبتان، مع حركةٍ للجسد والذي كثيراً ما يكون في وضع ٍ جانبي، أو مرتبطاً بتغطية اليدين للرأس والعينين والتي تضفي إحساساً عميقاً بالخوف والتشظي والانكفاء على الذات والحاجة الماسة إلى الأمان، والتي تبدو واضحة في أكثر من لوحة من خلال تشبث طفلين خائفين ببعضهما، أو عناق حبيبين أو زوجين بشكل ٍ متوارٍ خلف ستارٍ شفاف لا يستطيع اخفائهما وحمايتهما، أو نرى التصاقهما ببعضهما في إحدى اللوحات ويبدو وجود بترٍ في أطراف كلٍ منهما واضحاً، فيلجآن لخياطة جسديهما ببعضهما كي لا يفترقا وكي يكملا ما فقده كل منهما في ذات الآخر فيكون له ملاذاً وسنداً وأماناً ورفيقاً حتمياً لا يفرقهما حتى الموت، ويؤكد ذلك اتخاذ بعض أبطال اللوحات لوضعية الجنين والتي تحمل دلالة خاصة على افتقاد الأمان، فيشغل الشعور بالخوف بتفرعاته المختلفة والحاجة للطمأنينة حيزاً مهماً من أعمال الفنانة ڤيڤيان الصايغ، وما هو إلا انعكاسٌ لما مر به السوريون ولا زالوا يمرون به إلى جانب العديد من الشعوب العربية وشعوب العالم..

كما تغص لوحات فنانتنا بالإشارات والرموز المستقاة من مفردات القاموس الذي يضم كلمات المرحلة، فنجد باستمرار خيوطاً أو عدداً من الغرز الجراحية التي تحاول تطبيب جرحٍ نازف يبدو ظاهرياً في الجسد لكن مكانه الحقيقي هو الذاكرة والروح، كما نجد الكثير من عظامٍ متبقية من جسد أسماكٍ تكرر وجودها في أكثر من عمل للدلالة على حالة الإنهاك والاستنفاذ التي وصل إليها الإنسان فنهشته وتركته مجرد هيكلٍ خالٍ من كل ما يميزه ككائنٍ نابضٍ بالحياة، وربطت ڤيڤيان بذكاء هذه الأسماك بأزمة النازحين السوريين واللاجئين الذين يقطعون البحار بحثاً عن ملاذٍ مجهول، وتكرر وجود الأسماك والبحر مؤكداً على حالة التشتت التي يعيشها الإنسان بكافة أبعاده وحالاته، وعلى اختلاف خلفيته الثقافية والاجتماعية وفي أماكن تواجده سواءً داخل سوريا أو خارجها، وشعوره بأن القادم مفتوح ٌ على كل الاحتمالات، و نجد السلم موجوداً كرمزٍ يحضر بشكل ٍغير مباشر لكنه مؤثرٌ في المشهد ويشير إلى البحث عن مخرج ٍ آمن، ويتقاطع ذلك مع رموزٍ أخرى كالأقفال والمفاتيح والقضبان والأسلاك الشائكة التي تعكس الواقع الذي يسجن الناس في حالةٍ تدفعهم للحزن واليأس والإحباط، والذي يبدو من الصعب الخروج منه، كما وأنها تذكرنا بمفاتيح العودة التي ارتبطت في الأذهان بالقضية الفلسطينية ولكنها في سوريا تذكر أيضاً بأزمة اللاجئين خارج وطنهم وتسلط الضوء أيضاً على قضية المفقودين التي تدمي القلوب وتبدو نظراتهم الحزينة وصرخات ذويهم حاضرةً بقوة في المشهد الفني لڤيڤيان الصايغ، وكأنها كتاباتٌ مرسومة أو حتى (خربشات) طفولية على جدران سجن وبقايا من انسانيتهم وجسدهم وأحلامهم وذكرياتهم التي ذهب الكثير منها مع الريح..

ونلاحظ العديد من المشاعر واللحظات المبتورة في أعمال ڤيڤيان الصايغ بشكل ٍ مقصود، فنرى دائماً أماناً مبتوراً، وسعادةً مبتورة، وحباً مبتوراً، لكن الأغرب من كل هذا كله هي لحظات الأمومة والطفولة المبتورة وسط الدموع والأعين المعصوبة أو الغير موجودة أصلاً، ووسط ألعابٍ مكسورة وأجسادٍ ممزقة، ووجوهٍ حزينة تمنع اكتمال أقدس المشاعر الفطرية وأكثرها بديهية، فنرى في إحدى لوحاتها جسداً غير مكتمل يغطي رأسه وعينيه خوفاً ومحاولةً منه لحماية نفسه، يخرج من بيضةٍ ينبت منها زهورٌ وبراعمٌ صغيرة تظهر تناقض أحلام الطفولة مع الواقع المرير.. كما تم توظيف مكونات الطبيعة من أزهار ٍ وطيورٍ وأشجارٍ وبحارٍ في خدمة الحالة الشعورية التي يمر بها الإنسان أو للإشارة بوحدة الحال بين جميع الكائنات وافتقادها لأحاسيس يفترض ألا تنقص أحداً.

وتجربة الفنانة السورية ڨيڤيان الصايغ تؤكد إلى جانب العديد من تجارب الأجيال الشابة أنها قادرةٌ على مواكبة الواقع والانغماس في أسراره ومشاعره ومعانيه، وتقديم مشكلاته المعقدة بصدق بعيداً عن التكلف أو السطحية أو الغرق في تقديم فن نمطي ومستهلك ومكرر مع نفس الرموز وبنفس طريقة المعالجة للفكرة، ونتمنى أن يكون ذلك مؤشراً إيجابياً على فهم الشباب للمرحلة التي نعيشها وأملاً في قيامةٍ جديدة تنهض بنا وتنقلنا إلى مستقبل ٍ أفضل..


 فيفيان الصايغ فنانة تشكيلية سورية تخرجت في معهد أدهم اسماعيل للفنون التشكيلية عام 2001، شاركت في عدد من المعارض التشكيلية منها “المرأة تاريخ وحضارة ” و”تحية لجبران” في دمشق عام ٢٠١٨، ومعرض “حروف وامرأة من ضياء” في لبنان عام 2017، و”اتيان دو كوزان ” في باريس 2007، كما أقامت عدداً من المعارض الفردية منها: Touch”” في لبنان عام ٢٠١٩ و “Solo ” في برلين ٢٠١٩ ومعرضين في دمشق بعنوان “تركواز” ٢٠٢٠ و “حكايا” ٢٠٢١.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s