خالد جهاد
اللوحات من أعمال الفنان الفلسطيني هاني خوري
من رحم المعاناة يولد الإبداع، ومن رحم الظلم تولد الثورة، الثورة التي قد تأخذ أشكالاً متعددة وتفجر طاقاتٍ كامنة وتدفعنا إلى اكتشاف مناطق جديدة لم نكن نعرفها في أنفسنا، فنتمرد على ذاتنا ونتحداها وننطلق منها إلى عالم آخر يواكب أحلامنا وشغفنا، تجربة جديدة تحت الضوء للفنان الفلسطيني هاني خوري ابن قرية عيلبون الواقعة في الجليل شمال فلسطين المحتلة.
رغم حديث هاني الجاد حينما يتكلم عن تجربته وأسلوبه وأعماله إلا أن التمرد والسخرية تبدوان جزءاً مهماً من لوحاته وتحمل الكثير من الخروج عن المألوف وإعادة تقديم الواقع بشكل خاص يشبه نظرته للحياة والتي يقدم فيها مشاهد سوداوية قاتمة بطريقة تهكمية تحمل نبرةً من الجرأة والتحدي لهمجية ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين بشكل خاص والممارسات اللا إنسانية بشكل ٍ عام.
وللوهلة الأولى نلمح بصماتٍ تذكرنا بأعمال الفنان العالمي بابلو بيكاسو من حيث بعض الوجوه وطريقة الرسم في بضعة أعمال لكننا ما نلبث أن نرى خطاً مغايراً تماماً ينفذ إلى عوالم أخرى تؤكد على عمق النظرة وتميز الفكرة في أعمال الفنان الفلسطيني هاني خوري فتتحول أشد اللحظات حزناً إلى كرنفال زاخر بالرموز والاستعارات والإشارات والتي تشير في العديد منها إلى كاميرات المراقبة وتعقب البشر كما يحدث على أرض الواقع في فلسطين من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي ومذكراً بالرواية الشهيرة (١٩٨٤) للكاتب البريطاني الشهير جورج أورويل ومفهوم الوصاية والتتبع و(الأخ الأكبر) الذي نلاحظ حضوره في لوحاته والذي يرمز أيضاً إلى حالة الوصاية الاجتماعية التي باتت منتشرة في مجتمعاتنا العربية حيث يصدر الجميع أحكاماً على الآخرين، كما أن أزماتٍ عديدة كأزمة المياه تبدو جلية في العديد من اللوحات ويبدو الصنبور والماء والغيمة متواجدين بكثافة في عدة أماكن وأزمات كمؤشر لترابط هذه الأزمات ببعضها البعض ومصدرها الرئيسي ومنبعه السياسة والاحتلال والفكر الإقصائي للبشر وتهميش الكثير من الفئات وتصنيفهم حسب طائفتهم أو لونهم أو عرقهم أو وضعهم المادي والاجتماعي والذي يشار إليه بقدر من تهكمٍ منبعه الغضب في وجود المرحاض في عددٍ من اللوحات والتي تمت عنونتها ب (ثور لا يثور) و (رؤية لا سامية) كنوع من عبثية الشعارات والأفكار والعناوين الجاهزة والمكررة والمستهلكة والمعدة سلفاً حول الأزمات الوطنية والإنسانية والتي لم تقدم أي حل يخفف من معاناة الناس.




كما ويوجد للحزن والألم بشكلٍ ملحوظ لكن غير مباشر حضورٌ بارز عبر مجموعة من اللوحات للفنان هاني خوري ولها عناوين ملفتة تحكي عن حياة الإنسان ومصاعبه التي يمر بها والحالات التي يواجهها بشكل ٍ مستمر وحاجته إلى الدعم والعاطفة والاحتواء لتقلب مشاعره وتفهم مخاوفه وهواجسه التي تبدأ منذ طفولته في لوحة بعنوان (اليوم الذي ولدت فيه) وتستمر في عدة لوحات مثل (مقدس هو اليتيم) وتتجلى في لوحتي (الألم هو البوصلة) و (جسد ما بعد الألم) وصولاً إلى لوحة (حالة علاج) فتبدو الوجوه في حالة من القلق والتردد والتخوف من المحيط الذي تعيش فيه والذي صب فيه الفنان هاني خوري من مشاعره وتجربته الشخصية فيها وضخ كميةً كبيرة من الأحاسيس فهو لا يعتقد أن تقديم نفس الأشكال والأنماط والرموز للمواضيع سيخدمها بل يؤيد أن يقدم كل فنان تجربته الخاصة دون تكرار لتجارب الآخرين أو محاكاة أيقونات الفن لأن عدم وجود بصمة أو إضافة في العمل الفني تعني أنه لم يقدم شيئاً.
واهتم فناننا بالبعد النفسي كثيراً في لوحاته ومزج ذلك بمجموعة ٍ من اللوحات التي تحمل صخباً كبيراً في فكرتها وتزاوج بين مرارة الحالة السياسية ونتائجها وانعكاساتها على الناس وكمية التخبط الذي يعيشونه بسببها، وظهر ذلك في لوحات مثل (فوضى الحواس) و (حلم العدو) و (جندي السلام) و(انقسام على التنظيم) و(في حضرة العدم) و (ماضي مستمر) و (سقوط الآلهة)و (هجرة مقدسة)،حيث لا يمكن الفصل بين هذه الأزمات جميعاً والتي تلقي بظلالها حتى على الطبيعة والأرض والحيوانات والذي قد يقود الكثيرين إلى حالة متطرفة من الحزن أو اللامبالاة كما نرى في لوحتي (سلام مستنزف) و (انفصام) حيث دوماً يكون الإنسان محور الحدث سواءً كان ضحيةً مباشرة أو متأثراً بنتيجته.
وتغرق لوحات هاني خوري في رمزها فنرى كثيراً رموزاً وأيقوناتٍ فلسطينية أو مسيحية بشكلٍ جريء ومغاير يدمجها بذكاءٍ وجنون مع مفردات العصر الحالي والأوضاع الراهنة حول العالم ويستخدم المزج بين الواقع والخيال من خلال استحضار شخصيات ٍ كارتونية شهيرة لتشارك في مشاهد حزينة وصعبة في شكلٍ وقراءة غير معتادة لوجع سكان هذا الكوكب فتجعل من الفن لغةً عالمية تمد الجسور بين ثقافات وأجيال وأفكار مختلفة ومتفاوتة في اهتماماتها ونظرتها إلى الحياة، كما وأن الصبار والأغصان الجرداء متواجدة بين رموز هاني خوري والتي تعبر عن حال الأرض التي تعاني من سلوك البشر والاحتلال كما يعاني الإنسان تماماً.
ولا شك أن أعمال ابن قرية عيلبون ذي الثلاثين ربيعاً، ونشأته في بيئة تقليدية بسيطة، ثقافتها مسيحية محافظة ومرتبطة بالكنيسة لم ترحب باتجاهه نحو عالم الفن تعكس حالة ً من الجرأة والتمرد والسعي نحو التفكير بشكل ٍ مختلف وتقديم أفكاره ورؤيته من منظور مغاير ينبع من هويته الفلسطينية التي يحاول إبرازها والحديث عنها وتقديمها بشكل ٍ مستمر بأكثر من طريقة وأعماله هي أحد هذه الطرق، فتوائم بين الجذور المرتبطة بالقدس والأحلام التي تجوب العالم وتتبنى الإنسان بمشاكله وهمومه في نوع من الثورة على التمييز والظلم والعنصرية وسعي لخلق مناخ يحتضن البشر والأرض والكائنات بعيداً عن التصنيفات الخاضعة للتعصب والانحياز وضيق الأفق والرؤى المحدودة.

هاني خوري فنان تشكيلي فلسطيني ولد في قرية عيلبون شمال فلسطين المحتلة، وفي عام 2010 أقام معرضاً شخصياً في مدينة القدس حضره 7 أشخاص من معارفه، وفي العام 2016 حطم رقماً قياسياً في موسوعة جينيس بلوحة بورترية لشاعر فلسطيني “اكبر لوحة فسيفساء من الخبز المحمص” الأمر الذي أكسبه شهرة في المجتمع، ثم هاجر إلى كندا في العام 2018 هاجر إلى كندا، في العام 2019 نظم الباحث والمحاضر الفني جورج الأعمى معرضاً فردياً لهاني خوري تحت عنوان “فوضى الحواس” وقيّم المعرض على أنه “واحد من أنجح المعارض الفردية في تاريخ الحركة التشكيلية الفلسطينية”، وفي العام 2020 أشركه ” آرت بوث” في معرض “بريك“ المشترك في صالة سلوى زيدان في ابو ظبي.