التفاهة ليست تافهة.. بل نبيلة 

التفاهة ليست تافهة.. بل نبيلة 

فردوس عبد الرحمن

اللوحة: الفنان الإسباني خوان ميرو

هل تستطيع أن تعيش لحظة تافهة، موقفًا عبثيًا وبلا معنى، أن تسلك سلوكًا أو تنطق بكلام دون هدف وليس من ورائه أيُّ عائد؟

تفاجئنا التفاهة في قلب اليومي المُعاش .. فهل تستجيب؟

درجنا على اعتبار التفاهة شيئًا دونيًا ومن دون قيمة، حيث القيمة لدينا هي ما تنتج معنًى عظيمًا، معنى يتطابق مع النموذج الذي نطمح إليه. وبقدر ابتعاد الفعل أو المعنى عن ذلك النموذج بقدر نقصانه ودونيته وتفاهته، وبمعنى ما، يمكن لنا أن نعد التفاهة هي النسخة غير المطابقة للنماذج المعتمدة مؤسسيا، أي النسخة المنحرفة أو المسخ المشوه لما يعتد به.

ومن ثم بالإمكان عدُّها نوعا من (السيمولاكر) – بالمصطلح الأفلاطوني – لأنها، فى نهاية الأمر، وبخروجها على النموذج، فإنما تربكه (لما تنطوي عليه من سخرية واستخفاف، معلنين أو خفيين)، وبذا فالسيمولاكر – كما يقول (دولوز) – يؤسس للاختلاف لا للتشابه، أي أنه يتضمن تجاوزا للأنظمة والقوالب النمطية الجامدة. 

 وبالمعنى الأفلاطوني يكون (الكاريكاتير) الذي يضخم النموذج وينحرف عنه دونيًا وتافهًا، تكون الكوميديا التي تضخم الموقف الحياتي وتنغمس فيه سفاهة وحمقًا، تكون المواقف العابرة في الحياة والتي لا تترك أثرًا من معنى ولا تؤدي إلى نفع.. مواقف تافهة، حيث التفاهة في قاموس المعاني هي الأقل، الأحقر. وتوافه الأمور هو ما لا أهمية له.

ولأجل ذلك أقول: “التفاهة نبيلة”.. وخلوها من ذلك العقل الاستعمالي هو ما يمنحها ذلك النبل، وخاصة تلك التفاهة غير المقصودة والتي تفاجئنا داخل اليومي المُعاش.

يقول “ميشيل مافيزولي” :”لا تراتب في المعيش” بمعنى أنه ليس هناك أفضلية بين لحظة معيشة وأخرى، فكل اللحظات على نفس القدر من الأهمية، حين تنغمس فيها بكليتك. لذلك لا فرق بين تافه وقيِّم، فأنت حين تعيش ذلك التافه تعطيه من ذاتك، كينونتك، فيصبح ذلك التافه على نفس الأهمية من ذاتك وكينونتك.

كن مخلصًا للواقع والملموس.. تمنحك الحياة اليومية من ذاتها، وتضخ روحك بالحياة.

ينصح أطباء النفس كثيرًا بعض الجادين والمهمومين حدّ الضغط العصبيّ بالعيش داخل لحظات تافهة، بتخصيص وقت للتفاهة.

متعة التفاهة كما أشرت قبل ذلك، هي القدرة على الانغماس في المعيش، القدرة على التفاعل مع جميع الظواهر والمواقف، إشارة أنك حي.

كم يعذبني أنني لا أحب كرة القدم، كم ينقص متعتي بالحياة، وكم كان ينفيني خارج الوقت، عدم اندماجي في الثرثرة المجانية مع زميلاتي في العمل.. تلك التفاهة هي القدرة على التواصل مع الآخر، على إعطائه ما يستحقه من اهتمام، على الشعور بالألفة تجاهه.

أرفض تعاطي المخدرات والمسكرات.. ليس بالمعنى الديني الحرفي بقدر ما هو العناية بالذات.

ماذا تفعل تلك المسكرات؟.. إنها تحرض الجادين على التفاهة، تستطيع أن تغمسهم في اللحظة دون حسابات أو شروط، تفك حالات الخجل وتطلق طبيعيتهم، ترميهم على أرض التفاهة دون محاولة تقييمها كما يفعلون في أحوالهم العادية، تفصلهم عن جديتهم وتزيل العوائق والشروط التي يضعونها بينهم وبين الآخرين.

فإن كنت على هذا القدر من الشجاعة للانغماس في التفاهة دون حسابات للقيمة الذاتية أو بمعنى آخر.. إن كنت تقدر التفاهة، وتعي أنها القدرة على الاشتباك مع اللحظة المعيشة أياً كان شكلها، وإن كنت على هذا القدر من الجرأة على الشعور بحميمية الآخر حتى دون أن تعرفه، مادام يجمعكما مكان واحد أو موضوع واحد، فما حاجتك لمسكر أو مخدر اللّهم إلاّ إذا كان حاجتك للانفصال عن ذاتك وواقعك، هذا الانفصال الذي عذبني طوال حياتي، وإن  كنت عشته بشكل آخر.

..في “السايكو دراما” كنا إذا أردنا أن نقدم علاجًا جماعيًا للشخصية الدرامية.. الشخصية التي تنسج من حياتها دراما تعيش في سرديتها، نُتَفِّه لها ما تعيشه، نكسر لها الصورة الذهنية لمأساتها، والتي من صنعها هي، نكسرها بالتفاهة، بالعبث والسخرية مما تقول. أعلم أنه علاج موجع، ولكنه بعد قليل، سوف يكف تلك الآليات الدرامية التي تستعملها الشخصية، والتي تضخم شعورها بالمأساة، وتجرها إلى سلوكيات تكمل بها مشهدها التراجيديّ.

أنا شخصية درامية عظيمة.. لا أنسب العظمة لذاتي بل أنسبها للدراما التي صنعتها لحياتي. ولأنني موهوبة في السرد الدرامي، موهوبة في التأثير العاطفيّ على الآخرين.. وقفت على مسرح “السايكو دراما” وتمثّلت حياتي، وأخذت أحكي عنها، وأندب ما فاتني من العمر. قامت العضوات واحتضنني بعد أن سقطت على خشبة المسرح!!

.. لحظة وقوعي ضحك الطبيب، أشعرني بالتفاهة والألم، ومن ثمَّ غابت تلك الآليات الدرامية عن حياتي من يومها وإلى الآن.

“الضحك ده مزيكا كهربا على ميكانيكا”

كم أبدعت أيها الشاعر المكتئب النبيل (صلاح جاهين). كم صورت صعوبة الاضحاك والضحك، كم منحت من أهمية لكوميديا (الفارس) التي احتقرها الكثيرون، والتي بلا فائدة في نظر الكثيرين. ألأنك مكتئب ، ألأنك عاينت الاكتئاب النبيل فعرفت قيمة الضحك وصعوبته!!

الضحك للضحك، التفاهة للتفاهة ولا شيء غير هذا.

“خللى بالك من زوزو.. زوزو النوزو كونوزو”

هل كان صلاح جاهين ينتقم بالفعل لما حدث له بعد هزيمة (67) من إحباط مروِّع كما يقولون فيفرِّغ اللغة من فحواها ويرفع شعار العبثية؟

“شيكا بيكا و بلوتيكا ومقالب أنتيكا”

أم كان وعي جديد يتشكل بداخله؟

التفاهة في اللغة هي التحرر من سلطة اللغة، ذلك الطنين اللفظي، ذلك الرقص العبثي على إيقاع لغة فارغة، هو الثورة التي أطلقها صلاح جاهين في ذلك الوقت، ليحرر نفسه من كل معنًى قديم عاش به، وكاد يموت غمًا بعد انكساره.. لذلك أتى فيلم “خللي بالك من زوزو” والذي كتبه. تلك التيمة المستهلكة والفكرة النمطية التافهة. أتى في غاية المتعة والإدهاش، أخلص صلاح جاهين للتفاهة فامتلأت بكينونته المدهشة.

التفاهة ليست تافهة.

نحن نعثر على الحرية داخل التفاهة!!

واجه الشعب المصري الاستبداد الذي مورس عليه عبر التاريخ، بالتنكيت والسخرية، وتتفيه الظالم في أشدّ اللحظات التاريخية بطشًا وظلمًا.

نزعت الجماعة الشعبية قدسية الأفكار الكلية الكبرى وفزع المحرمات والتابوهات.. بالنكتة، وبالأمثال الشعبية الدارجة.. اللي يعوزه البيت يحرم على الجامع، لقد أعطى الوعي الشعبي للبيت وللمعيشة قدسية أكبر من بيت العبادة، هكذا بكل جرأة وبلا حسابات.

ذلك الوعي الجمعي بعدم تراتبية القيم وبإعطاء الأهمية القصوى للمُعاش هو ما يعطي الجماعة الشعبية عمقها والذي تستمده دائمًا من احتفائها بالحياة.

في الثلاثين من يونيو عام 2013 وأثناء ثورة الشعب المصري على الإخوان المسلمين وعلى محمد مرسي رئيس الجمهورية وقتها.. اعتلى أحد الثائرين المنصة وأخذ يخطب فينا بجمل إنشائية وبتعبيرات مصكوكة.  ردّ عليهَ أحد شباب المتظاهرين متهكما: “قول يا مرسي قول”. هكذا تنبثق النكتة والسخرية حتى في أشد اللحظات جدية. إن عمق السخرية يكمن في أنها فضحت التناقض الذي ينطوي عليه الثائر، إنه يستخدم نفس اللغة ونفس أداء الرئيس الذي جئنا للثورة عليه، تلك الفصاحة الجوفاء. أذكر أن أحد المثقفين كان يقف بجانبي، وسمعته يعلق غاضبا على تفاهة ذلك الشاب، على سخريته من خطيب المنصة، المفوه كثائر جاد حتى السأم. أنا  شخصيًا رأيت في سخرية الشاب من خطيب الثورة عمقًا ونقدا فاضحًا لخواء المعنى الثوري في وعي خطيب الثورة. من لا يستطيع أن يثور على لغته، لا يمكنه أن يغير واقعا. اختصر الشاب كل ما يمكن أن يقال في هذا المضمار بضحكه وسخريته وتتفيهه لكل ميراث الخطابة، أمات في لحظة تلك البلاغة القديمة وأشعرني بعفونتها، اختصر التاريخ ووضعني بعمق في “الهنا والآن”. شيكا بيكا وبولتيكا ومقالب انتيكا. هل كان صلاح جاهين يقصد فضح الواقع السياسي (البوليتيكا)؟ يشير إلى المقلب الذي شربه من السياسة فقلب حياته راسًا على عقب؟  ما أبلغك أيتها التفاهة!

التفاهة سمحة.. فما يقبله منك الآخرون في لحظة تهريج تافهة لا يقبلونه منك في وقت آخر. في التفاهة تكمن الحقيقة ويكون مسموحًا بقولها.

وبرغم أنني تكلمت عن أهمية التفاهة، وقصديتها في العلاج، إلاّ أنني مازلت أعطي القيمة الحقيقية لها في صدفويتها واختراقها المباغت لنا، لتكون من نسيج الحياة اليومية المعاشة، لتأخذ نبلها وحقيقيتها، لتمنحنا عدم الاكتراث بجديتنا المأساوية الضاغطة، لتمرننا على قبول الشيء ونقيضه في آن “التناقض خاصية الحياة” فبالتفاهة نهتز لفكرة ما، ثم بعد لحظات لنقيضتها, نتحمس لأبطال أو شيوخ أو زعماء ثم ما يلبث هؤلاء أن ينطفئوا في أعيننا. تلك الخفة التي تمنحنا التفاهة إياها، فنتحرك في الحياة ونغير موافقنا بمرونة كاملة .

لا تمنح المواقف والأشخاص والأفكار جدية كاملة فتكون متعصبًا، متشنجًا، شائخًا.. كن مع الديمومة التي لا تترك المهم مهمًا ولا الجدي جديًا ولا الحقيقي حقيقيًا فأمجاد العالم إلى زوال. 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s