اللوحة: الفنانة الأكرانية تاتيانا فيرستاك
“والآن الأرض كلها تتمسك بك، تصبح لحم لحمك وتصرخ من وسط العماء”
( نيكوس كازنتازاكس )
الرؤية.. هي أن تفتح الصندوق الأسود الذي بداخلك والذي لا تدري عنه شيئًا. أنت لا تدري شيئًا عن نفسك سوى الألم الذي تشعر به أو التصرفات التي تقوم بها ويقوم بها الآخرون تجاهك، وفي كثير من الأحيان تشعر بالظلم وبكونك ضحية وأن الآخر خبيث وشرير أو أن القدر يترصدك، وإذا تسامحت في كل هذا تظل تشعر بالبؤس أو الشجن العميق.
الرؤية.. هي أن ترى ما وراء كل هذه المشاعر، وراء كل ما تعيه عن نفسك وعن الآخرين، ولا تتأتى إليك أبدًا إلاّ بألم شديد أو خسارة فادحة.. تقف فجأة أمام نفسك وتسألها: لماذا أشعر بكل هذا الألم؟ لماذا حقق الآخرون كذا وكذا ولم أستطع؟ ماذا أنجزت في حياتي؟ لماذا أحب فلانًا برغم ما يفعله بي؟ وهل أنا أحبه فعلًا أم وراء هذا شيء آخر؟ ولماذا أشعر بهذه الوحدة وذلك العجز مع أن الآخرين يحبونني ويلتفون حولي؟ وهكذا وهكذا.
بالطبع، لا أحد يطالبك بأن تضع وجودك في بؤرة الشك هذه، إلاّ إذا كان لديك ألم شديد، أو خسارة فادحة، أحبطت كل ما فعلته في حياتك.
الرؤية.. هي النور الذي يتسلل إليك من داخلك لترى ما أنت عليه، وتدرك نوع الوجود الذي تعيش به. وبرغم ما يصاحب ذلك من وجع شديد أو فزع، إلاّ أنني أراها المقدس الوحيد في هذه الحياة، والتي من دونها سوف تظل معميًا عن نفسك، معميًا عن العالم، معميًا عن الله.. لن تعرف شيئاً عن الوجود إلاّ إذا عرفت نفسك يقول ميشيل فوكو “الاهتمام بالذات ليس رديفًا للانكفاء على الذات بل هو ذو تأثير قوي على العلاقة مع الآخرين.. في مجال الحياة الزوجية والعلاقات الاقتصادية ومع الطبيعة أيضًا، إنه يحدد أسلوب الوجود”.
في بداية عملي بإذاعة البرنامج الثقافي.. تشاجرت مع مديرتي وغالبًا.. كان السبب تافهًاً لكنني بعد أن خرجت من مكتبها.. ذهبت إلى آخر الممر وبكيت بحرقة ووجدتني أقول: ليس لأحد ذنب فيما يحدث لي، أنا التي ليس لها يدان لتأخذ بهما حقوقها.
أعتقد أنني في تلك اللحظة تذكرت كل ماضيّ وأدركت أن الآخرين لم يمنعوا شيئًا عني.. أنا التي كنت عاجزة عن المطالبة بحقوقي.
هذا البكاء المر.. دلَّني على أن المشكلة تكمن في نوع وجودي. بعد هذا الموقف صرت أتأمل كل سلوكياتي وسلوك الآخرين تجاهي، صرت أتأمل كل ألم أشعر به وكل سرور يطربني، وبدا لي أن ما يظهر من أسباب إن هو إلاّ قشرة تخبئ وراءها أسبابًا أخرى تمامًا، وفي ظل هذا الموقف الوجودي قابلت أحد ضيوف برامجي وكان أديبًا كفيفًا، قال لي: ” أنـــت منــــــــا.. لا أدري.. شيء بداخلي يؤكد أنكَ منا “.
نعم أعرف أننى أمتلك ذواتًا كثيرة ومع كل شخص أقابله.. أخرج ذاتًا تناسبه فيشعر أننى كنت جارة له أوزميلة من زملاء الدراسة أو حتى بلدياته هكذا.. هكذا مع مختلف المستويات، لم تدهشنى عبارة الرجل الكفيف: “أنت منا”.
ولكن ما جعلني أفكر معه.. عبارته الأخيرة “شيء بداخلي يؤكد لي أنك منا”.
.. لعله صوتي, فدائمًا ما يختزلني المكفوفون في صوتي، قال لي أحدهم ذات مرة: أتصور أن حورية الجنة تشبهك.
ـ ليس إلى هذا الحد يا عم، فصوتي نفسه ليس بهذا الجمال.. لعله طه حسين الذى افتُتِنت به فى مراهقتى وتمنيت العماء لأكون هو، لعلها الذاكرة البصرية الضعيفة التي أعاني منها.
ـ لالا .. أعرف أنك منا.
ظل الأديب الكفيف مصرًا على أنني منهم بشكل حقيقي وليس على سبيل المجاز.
ـ آه.. تذكرت !! ذات مرة فقدت بصري بالفعل، حدث ذلك وأنا صغيرة.. كان وقتها في أثناء فترة التهجير بعد حرب 67، كنت ألعب في حوش المدرسة التي هُجِّرنا إليها في قرية من ضواحي الإسماعيلية، وفجأة سمعت صوت طائرة وسمعت صرخة أمي ثم دوي انفجار كبير، ولم أدر بعد ذلك إلاّ بأبي وهو يغسل وجهي بالماء وعندما فتحت عيني لم أر شيئا، أخذت أتلمس ملامح وجهي، وكان كل ما يهمني ساعتها، هل فمي وعيني وأنفي في مكانهم أم لا!!. كان عمري وقتها ثلاث سنوات، ولم أر إلاّ بعد ستة أيام من هذا الحادث بعدما انتقلنا إلى قرية أخرى بمحافظة الغربية، فعلا.. عشت حالة عماء حقيقية وأنا طفلة.
برغم بساطة هذا الحوار مع الأديب الكفيف.. إلاّ أنه فجَّر بداخلي مناطق عميقة من الوجع، هكذا دائماً.. تأتيك الرؤية من أبسط المواقف وأتفهها أحيانًا، هذا إذا كنت في جاهزية تسمح لك بذلك، وأعتقد أني ـ وقتها ـ كنت جاهزة تمامًا لكي أرى، بعد مشوار طويل من الخسارة والألم، وبدأت بأجمل ما كنت أعتز به في ذلك الوقت.. جاذبيتي للآخرين وحميميتي معهم.
لماذا يلهث الآخرون ورائي وينجذبون إليَّ بهذا الشكل؟
انجذاب الآخرين لك ليس ميزة دائمًا.. في حالتي هذه، كانت القروح المتعددة والكثيفة بداخلي والتي بدأت بالعمى، هي سر انجذاب الأديب الأعمى لي.. تلك الجروح لها رائحة تجر المجروحين من رقابهم وما أكثرهم، وكنت أنا أيضًا أصطاد جروحهم لآنس إليها في حقل خوائي وعدميتي. كان من الممكن أن أصدق أن هذا حب حقيقي للبشر وللوجود لولا العدمية التي لا تُطاق والتي كنت أشعر بها عندما أعود وحيدة إلى بيتي. الأنس الحقيقي بالوجود ليس في حضرة الآخرين فقط، بل في حضرة ذاتك قبل أي شيء.. داخل ذاتك حتى وأنت تجلس وحيدًا، حضورك لنفسك وامتلاؤك بها.
تلك الفكرة و ذلك الشعور أوصلاني لطبقة ثانية من الرؤية. نعم فالرؤية حين تصعقك لأول مرة.. تظل تنهمر بجزئياتها الصغيرة والتي تسلم بعضها بعضاً، حيث هي طبقات من المعاني تكشف عن بعضها البعض، فنتصور أن كل ما عرفناه عن أنفسنا في السابق هو محض وهم، وكل ما فهمناه عن وجودنا افتراء ومن هنا تكون الصدمة أو الصعقة كما أحب أن أسميها.
كان هذا المعنى هو احتياجهم إلى نبي يمسح عنهم آلامهم فأوقعوني في هذا الدور مرة أخرى، حيث كنت أفهم الكثير من الأوجاع البشرية بسبب تجربتي الطويلة والعنيفة مع الألم، كنت بالفعل أرى ما لا يراه الآخرون داخل النفوس الحزينة فظنوا أنني حين ألمس الرؤوس تُشفى من أسقامها وحين أمسح على الأعين ترى، كيف صدقتهم؟
هذا إذاً هو المعنى الثاني.. النبوة الزائفة والتي أسقطتني قبل ذلك في هوّة السديم.. فترة الموت النفسي الذي وقعت فيه قبل ذلك بسنوات، ثم وصلت للطبقة الثالثة وهي أن محبة الآخرين و الاعتناء بهم لم يكن سوى آلية للهروب من مسئولية ما فعلته بنفسي وبحياتي.. حياتي التي لم أصنع منها سوى وميض ضئيل لإذاعية على الهامش، في تلك اللحظة نظرت إلى ذلك الحب وعرفت أنه شئ آخر.. إن هو إلا الجوع وعدم الامتلاء، إذن فأنا امرأة جوفاء كما ذكرت في إحدى قصائدي، والحب لديّ ما هو إلاّ عدم القدرة على الحب، فالمرء الأجوف لا يستطيع أن يحب.. طعنات وراء طعنات وحجب تنكشف فأرى الجحيم.
ثم ينفتح للرؤية باب آخر تمامًا، أشد صعوبة من السابق.. هكذا هي الرؤية.. طالما انفتح الباب لها تظل تتوالى عليك إلى ما لانهاية.
كان هذا المستوى من الرؤية أصعب من سابقيه، فقد اكتشفت معها أنني مازلت عمياء. كدت أقتل زميلي الذي استنجد بي لأخلصه من عذابه وإحساسه بتهديد الموت له، نوبات البكاء التي تداهمه كل ليلة .. كان يسمع برنامجي باستمرار وأراد أن أقدم قصته في البرنامج، استمعت إليه، وكتبته كما أراه، لم أكذب، لكنه لم يتحمل، كانت حقيقة، لكنه لم يتحمل. أردت أن أكشف له ما انكشف لي من قبل فيسلك ذات الطريق الوعرة لمعرفة نفسه، فانهار وحبس نفسه في بيته أسبوعًا لم أدر عنه شيئاً سوى تلك الرسالة ” لم أعد موجودًا “. طلبته على التليفون فلم يرد ، أحسست بقسوة الجريمة التي ارتكبتها، وأرسلت له ـ أنا أيضًا ـ برسالة على الموبايل.
“لا أحد يستطيع أن يلغي وجود أحد بقرار مهما قال عنك الطبيب في البرنامج ومهما قلت أنا”.
وجدت نفسي أتنكر لكل ما قيل عنه في الحلقة، وأحرضَّه على ألاّ يصدقه. أحسست في تلك اللحظة أنني: الدبة اللي قتلت صاحبها لأنني أقحمت عليه تلك المعرفة بنوع وجوده، فيما هو لم يكن جاهزًا لها على الإطلاق، عرفت بعد ذلك أنه من الخطورة أن تُرِيَ شخصاً ما نوع وجوده دون أن يكون مجهزًا لذلك عبر مواقف وجزئيات صغيرة يكون قد رآها في نفسه من قبل.. فإما أن يتصدع (يتفكك وجوده) أو يقاوم تلك الرؤية فيعود أسوأ مما كان ويتحجر على ما هو عليه. قلت لنفسي وقتها..” فلتعودي إلى نقطة الصفر يا فردوس، ولتبتلعي لكمة المرارة في صمت، لا تفرحي هكذا بما رأيتِ، ما رأيتِ لا يخص الآخرين في شيء، كيف تصورتِ أن الجميع يستطيع أن يمشي متصدِّعاً كما مشيتِ، ولماذا تصرين على أن يروا ما رأيتِ، فتنهار قوائم وجودهم ويتحول الجميع إلى نثار، مع أنكِ تعلمين أن الرؤية تفرز شقاءً أعظم والولادة عسرة عسرة، لقد جربتِها، فلم تلدي غير كائن ناقص النمو أخرس.. أنتِ الآن كائن ناقص النمو أخرس “.
كان هذا آخر ما رأيت من وجودي المتقزم والشائه في تلك المرحلة.
..المبالغة والتضخيم من سمات الرؤية في لحظتها الأولى وكأنك تمسك بعدسة مكبرة لتلك الأخطاء ونقاط الضعف في شخصيتك.. فتراها كوارث، ويكون الحكم على نفسك دائمًا بالنفي: أنا لست شيئًا.
على الفيس بوك عارضني بعض الأصدقاء لوصفي هذه المرحلة من الرؤية بالجحيم ، فهم لا يرون في الرؤية إلاّ فرح الاكتشاف، أما أنا وقد جربتها.. أفهم أن الرؤية لا تأتي إلاّ بعد كسر التضخم الذاتي. إنه وجع أشبه بتكسير العظام، تأتي لتذيب القناعات السابقة بماء من نار. فكيف لا تكون موجعة وجحيمية كما قلت على الفيس بوك؟
للرؤية حس مزدوج.. ففيها من الهول ما يجعل وجودك الآني يتصدع أو ينهار، وفيها من الألم الفرِح ما ينبئك بوجود جديد قادم.. لكنك تظل كسارق النار عاجزًا ووحيدًا، إلى أن تمر الأيام وتبدأ في استيعابها، حينئذ تبدأ في المخاض، ثم يكون هذا المولود الناقص النمو، العاجز تمامًا عن الفعل والحركة، فتشعر بالفزع والخزي والضآلة.
الذنب ـ أيضًا ـ من المشاعر المصاحبة لتلك العملية. الذنب والإحباط وعدم اليقين، فبرغم قدسية هذا الفعل في نظري.. إلاّ أنه مصحوب بالندم على هذا الوجود الذي ضاع منك وكنت لا تعرف غيره: حين تلد نفسك يضيع منك وجودك السابق وفي هذا أشد أنواع الرعب.
أنت الآن أمام كائن لا تعرفه.. كائن بلا أي مهارات كنت تعيش بها قبل ذلك ، كائن جنيني خائف، لم يتعلم الكلام بعد ولا المشي ولا الوقوف في الشارع.. أذكر أنه كانت تأتيني نوبة من الفزع وأنا واقفة في الطرقة أمام مكتبي دون سبب، ربما كان إحساسًا عميقا بالتيه.
ألم الرؤية لا يطاق، وألم ولادة الذات فوق الاحتمال، ورجفة النفاس خزي وضآلة أمام ناس لا يعرفون أنك ولدت نفسك للتو، ومع ذلك يبقى ما فعلته في نفسك هو المقدس الوحيد، فمنه يخرج الإله القابع في ذاتك، وبه يُحيي الانسان الموتى كما أقمت نفسك من العدم.
أشفق على الإله الذي أقام الكون من العدم. لو أنني لم أمر بهذه التجربة، بذلك الهول.. ما فهمته وما قدرت عذابه.. أحسب أن تلك الإيمانات الجاهزة.. نوع من الكسل الوجودي، نوع من العقر. من لم يلد نفسه عاقر.
أتأمل موتي الذي متُّ، السديم الذي ظللت أدور فيه، أتأمل الألم المجاني الذي عشته عبر سنوات انفصالي عن الأرض، والألم المقدس الذي جربته عبر سنوات ولادتي.. حتى أنه في غمرة تلك الآلام.. ولدت الله. حين تلد نفسك.. تلد الله، لتقول: يا أبي ..فلا يرد عليك، لأنه يقول في نفسه: أنت لا تعرفني.. اصعد، اصعد، وحدك تستطيع، كمال المعرفة في ألاّ تعرف.
ما كنت أعرفه عن الله.. ذهب مع الضياع الذي كنته، والآن لا أعرف.. أنا لا أعرف.. وما قلته الآن يقع في دائرة الاحتمال، أنا أكتب وعيي الحالي فقط، ومن الممكن أن أدرك بعد قليل.. أن ما عرفته ضلال ” لا أدّعي ضمانات بل أذكر فقط كشيء من الخلاص، بما أثارني وبما أوقعني وبما منحني ولو للحظة متعة الفهم (أن أكون مفهوماً)”.(رولان بارت)
إذا كنت قد وقعت في الموت، وكان بي حسٌ دائم بأنني سأُبعث مرة أخرى ولذلك ظللت أدور وأدور في تلك السدوم، علّني أجد من يلتقطني، إذا كنت ناديت ” اللهم لا إله إلاّ أنت سبحانك إني لست من الظالمين ” وكان لديّ شعور مبهم أن الله سوف يحل في عاشق ويبعثني من الموت.. فتلك المرة وبعد ولادتي لهذا الكائن المشوّه، العاجز (أنا) شعرت أنني أسقطتُّ نفسي فيه إلى الحد الذي لم يعد بإمكاني التقاطها. إنني ضائعة للأبد، ولا أثر للعودة. بالفعل كان لديّ ندم على ما ضاع من وجودي السابق، وكان على الأقل، يمشي، ويتكلم، ويكتب شعرًا، ويغني أحيانًا. أمَّا الآن، وفي تلك اللحظة فقد سكت تمامًا، ولم يعد بإمكاني استعماله. لا أستطيع أن أكشف جرحه لأشد المجروحين لرائحته فآنس لهم ـ فقدت الونس تقريبًا ـ أنا غارقة في (الكأنّ).. كأنني إنسان وكأن الآخرين ناس. ماذا أفعل بجنين أخرس ناقص النمو، يرى الحياة لأول مرة، يتعرف على البشر، على ابنتي، على الأحبة من جديد؟ كان لابد أن أعيش في (الكأنّ) وكأنني ذلك الوجود السابق الذي يعرفهم جميعًا ويعرفونه. عمومًا تلك مرحلة لاحقة.. سوف أتكلم عنها بعد قليل.
في البداية وعند بعثي الأول.. عشت بنعمة أنني حية أرزق.. ًأصبحت أشعر.. بالتعاسة أو الغيظ أو الخوف.. لا يهم، المهم أنني أشعر.. صرت ملهوفة على ابنتي عندما تمرض، أو تعود جائعة من المدرسة، أو تخاف من الامتحانات، صرت ـ أيضاً أعمل ـ عادت برامجي الإذاعية بشكل أنضج وأعمق، صرت أطبخ لأنني كنت أخاف أن يصحو(صاحب الشروط) في المساء ولا يجد الطعام جاهزًا. نعم كنت متوترة ومشدودة الأعصاب دائمًا كي لا أخطئ في شيء: في الطبيخ، في تنظيف البيت، في كتابة الشعر، والإعداد لبرامجي الإذاعية كي لا تكون مهترئة مثلي (فصاحب الشروط) لا يرحم.. قالها لي مرة: “أنت شيء تعيس ومهترئ” عشت بعدها في إطار شروطه لأثبت للعالم أنني لست مهترئة. كان مثقفا كبيرًا، لكنه من ذلك النوع الذي يجعل شروطًا لكل شئ في الحياة. في البيت، في الشارع، في الباص الذي نركبه، وفيّ أنا شخصيًا. كنت إذا اصطدمت بشيء ووقعت عنفني وكأنني مجرمة في حق الوجود، وكان إذا استقرت على وجهي نتفة من منديل ورق مسحت به جبهتي.. صرخ فيّ كمعتوهة، حتى وأنا نائمة بجواره.. إن طردت الغطاء عني قمت من نومي على صراخه يشتمني ويدعو على نفسه ويسبُّ الوجود الذي وضعه في هذه الورطة حتى انتهى بي الحال إلى النوم على الأرض بعيدًا عنه. هكذا بالألم امتلأت بالحياة وقلت للرب: “أنا تعيسة وغير مهترئة “.
بعد طلاقي من “صاحب الشروط”.. قال لي الطبيب: أنت مجنونة فما من فلاحة بسيطة ترضى بأن تعيش ما عشتِه معه.
حتى الطبيب لم يكن يدرك أنني كنت أعيش أهوال القيامة ولابد من تحملها عن آخرها كي أرى مصيري، لم يدرك أن هذا الرجل كان بالنسبة لي ربّاً وقتها.. أحيا عظامي وهي رميم، لكنه لم يكسها لحمًا كان ربًّا ناقصًا لذلك ترك الأعصاب عارية تمامًا ولم أر هذا اللحم ينتشر بكثافة على عظامي إلآّ الآن، وقبل أن أبدأ في هذا الكتاب بشهور قليلة.
تخيّل لو أنك أنزلت جنينًا من بطن أمه قبل أن تكتسي عظامه باللحم، وكان يملك الإدراك أنه كذلك!! كيف يشعر؟ عشت في رعب فائق بعد قيامي من الموت خلال كل تلك السنوات وبعدها.. كنت أذهب إلى عملي وأسناني تصطك ببعضها، كنت أذهب إلى ورشة (السايكو دراما) وركبتاي تسوخان في الأرض، وعندما طلبت الطلاق من (صاحب الشروط)..كنت أتخيل أنني سوف أقفز إلى الموت من جديد.. لكنني لم أمت وكانت الرؤية أو الولادة والتي تحدثت عنها منذ قليل، وبدأ اللحم يتكون على عظامي بألم شديد.
ألم ورعب وندم في آن واحد.. اللهم لا إله إلاّ أنت سبحانك.. هل كنتُ من الظالمين؟ إني لا أعرف الآن شيئًا عن أي شيء.
ـ هل غفر لكِ الرب خطيئة التصورات؟
ـ لا أعرف
ـ هل تذكرين الماضي وجثتك المرمية هناك؟
ـ لا أعرف.
ـ هل حملها (صاحب الشروط) ومضى؟
ـ لا أعرف.
ـ هل وقعتِ في الموت مرة أخرى؟
ـ لا أعرف، لا أعرف، لا أعرف.
عشت (باللا أعرف) هذه ما يزيد عن سنة وحتى ثورة 25 يناير. شاركت فيها، بكأنني أشارك، وانفعلت مع الجماهير في ميدان التحرير بكأنني أنفعل، وهتفت: “الشعب يريد إسقاط النظام” بكأنني أهتف.. حين تضع طفلك الذي ولدته من ذاتك وتعلمه المشي والكلام .. تعيش بـ (الكأنّ) هذه لفترة. كنت أقول لمن يسألني عن حالي: أنا.. كأنّ.