مريم صبحي
اللوحة: الفنانة السعودية ليلى مال الله
نصوص لشباب واعدين في مقتبل الكتابة
كم من كلمات شلت معانيها، وكم من عبارات زلزت أطرافها، وكم من زمان حارب وخان اعين الناس، وكم من عيون باتت مشتاقه حتى سقاها من حر أحزانها كوب!
أدعى ‘تميم’ أبلغ من العمر ثلاثة وعشرين عاما، ترعرت في أسرة فقيرة جدا، لا نكاد نجد قوت يومنا، لدي أخ أكبر وأخت لاتزال في الثالثة عشرة من عمرها.
يوم وفاة والدي هو اليوم الذي كسر أضلعي وغير حياتي تغييرا جذريا، فأبي لم يكن يعاني من أي مرض، لكنه قضاء الله. بدأت مراسم الدفن بهدوء تام حتى رأينا رجلا يأتي مسرعا إلينا وهويصرخ:
انتظروا، قلت لكم انتظروا لن تتموا دفن هذا الرجل ويؤشر بسبابته على أبي المكفن.
اندهش الجميع وبدت علامات التعجب تملأ المكان حتى تقدم شابان الى الرجل قائلان: يا عم ماذا بك؟ الا ترى حال الجميع ؟ اسمح لنا يا عم هيا، فصرخ الرجل قائلا: لن تدفنوه قبل أن ترجعوا لي مالي، إن هذا الرجل المكفن أخذ مني قرضا ولم يرده لي، ولن أسامحه ابدا ابدا.
تزايد صوت الناس من حولي يحوقلون في دهشة وحزن وينظرون إلينا أنا وأخي الاكبر، ولم أسمح للموقف ان يطول، وتقدمت قائلا: تشرفنا بك يا عم وأعدك وعدا أمام جميع من يحضرون أن مالك سيرد خلال ساعة، ولكن اسمح لي بإكمال الدفن ياعم.
اندهش أخي الاكبر من مبادرتي غير المتوقعه، فهو يعلم اننا لانملك مالا أبدا، وأبي لم يترك لنا أي شيئا، وعند إتمام مراسم الدفن ذهبت للمنزل مسرعا لأخذ المبلغ من أصل مدخراتي التي لا يعلم عنها الا الوالدة، قالت لي بأسى: يابني هل ستضحي بمالك الذي كدت ان تفني حياتك من أجل تجميعه لتتم دراستك بالخارج؟ لم اتردد لحظه وقلت: ان كنت سأضحي بمالي الذي سأنتفع به في دنياي، فهناك رازق ياأمي سيعوضني.
خرجت من المنزل متوجها الى ذلك الرجل لأعطيه دين أبي وبداخلي راحة عظيمة، ومرت الايام سريعة متشابهة، رزقني الله عملا براتب متواضع، ولم يقصر أخي الاكبر، كان يساعدني بما يقدر عليه، فهو متزوج من ابنه عمي ولديه طفلان .
وفي يوم كنت متوجها الى عملي، تفاجأت بصوت اختي تصرخ مستغيثة:تميم تميم ارجوك ساعدني أمي ياتميم أمي اسرع ارجوك اسرع.. عندما سمعتها لم أعرف ماذا أفعل؟ وجدت أمي ملقاة على الارض تتألم واختي متشبته بذراعها تبكي قائله: إنها لم تستيقظ لصلاة الفجر وجئت لاوقظها فأذا بها هكذا.
طلبت الاسعاف ويداي وقلبي يرتجفان من شدة خوفي، وعندما وصلنا الى المستشفى فإذا بهم يسرعون بأمي الي غرفة العمليات، كانت كل خلية داخلي تصرخ، كل مابي يستنجد متألما على حال أمي، نعم أكثر ما يخيف قلبي هو فقدانها فهي ملاذي في هذه الدنيا.
ساعات كالدهر تمر في انتظارنا خروج الطبيب، ولما خرج نظر إلي قائلا أريدك وحدك يابني، ثم قال: إن كل شي مقدر ومكتوب ان والدتك تمر بفترة حرجة لديها فشل كلوي سنحتاج سريعا الى متبرع، وادعو لها بالشفاء العاجل.
ساءت حالتي كثيرا وشعرت بخوف ورعب ولكن كان يقيني بالله يكفيني، لازمت أقدام أمي، وكلي ألم لمعاناتها، وفي لحظة لمعت الفكرة برأسي، أسرعت للطبيب قائلا: وجدنا المتبرع يادكتور، فمتى نقوم بالعملية؟
فقال: هيا ماذا تنتظر ؟ أحضره الآن.
فقلت: إنه أمامك أيها الطبيب .
فقال الطبيب: هل تقصد انك انت المتبرع؟ هل تستوعب خطورة العملية واحتمالات فشلها؟
فقلت: نعم انا أيها الطبيب.
فقال: حسنا ولكن علينا إجراء بعض الفحوصات.
فقلت: حسنا وأنا مستعد، توكلت على الله.
تم إجراء الفحص الكامل لي وتمت الموافقة على إجراء العملية.
لم أكن أود عند استيقاظي أكثر من رؤية وجه أمي، نعم فاض بي الشوق لأمي فاض الحنين لحضنها لهمساتها لرائحتها، فإذا بها تمسك وجهي بيديها الناعمتين للتروى ذبول وجهي وتمسح تعبي وارهاقي وألمي.
اتتني أمي لتضمني لصدرها، تمسد شعري بكفيها الحانيتين، تواسي قلبها وقلبي وتمسح الدمع عن عيني وعينها فقمت ومسحت دمعها وقبلت قدميها قائلا: لا تحزني يا قرة عيني، لا تبكي فبكائك يقتلني لأجعل الله للحزن مكانا في حياتك، جعلني الله فداءك يا جنتي يا نور عيني، ويكفيني فرحا أن جزءا مني يعيش داخلك يا اماه.