إسماعيل أبو ترابة.. المرأة ربة الينبوع وعنوان الحضارة

إسماعيل أبو ترابة.. المرأة ربة الينبوع وعنوان الحضارة

حنان عبد القادر

اللوحات من أعمال الفنان إسماعيل أبو ترابة

بين الفن والحياة جدلية أبدية لا تنتهي، فلا حياة تُحتمل بغير وجود الفن بأنواعه، ولا فن يعبر عن ذاته بلا حياة تبعث في جوانبه أنفاسها، والإنسان على مر العصور اتخذ من الفن وسيلة يعبر بها عن مكنونات روحه وانفعالاته ومشاعره، لكن الجدل بين وجود الفن والحياة مازال قائما، سؤال يدور في خلد الكثيرين: هل ثمة علاقة بين ممارسة الفن انطلاقا من الموهبة وبين دراسته؟ وهل تكفي الموهبة وحدها لتخلق فنا يستحق الخلود؟ 

في الحقيقة إن معظم من يمارسون الفن موهوبون بالفطرة، ثم تأتي الدراسة تالية لتعمق لديهم ما بدأوه بالفعل، وذلك ما نجده في كثير من النماذج ومع غالبية الفنانين على مستوى العالم.

الفنان إسماعيل أبو ترابة من الفنانين الذين تمثل في مشوارهم الفني هذا الأمر، فقد بدأ دراسته الجامعية في قسم الرياضيات والفيزياء، ثم التحق بكلية الفنون الجميلة قسم النحت، لكنه ما لبث أن مزج فن النحت بالفن التصويري في كثير من  لوحاته، عن طريق النحت البارز على الخشب، ثم على الأقمشة، وقد لاقت هذه الفكرة استحسانا كبيرا مما أغرى العديد من طلاب الدراسات الفنية بتقديم الأبحاث حولها.

وعن تقنيته في التشكيل يقول: “يطيب لي أن أستخدم تقنية تماثل تقنية “الريليف” وهي النحت النافر على اللوحة، وقد كونت توليفة خاصة بي صنعتها من عدة مواد مستخدما اللون البني المعتم والفاهي، أمدّه على اللوحة فيعطي شعوراً بالقدم التاريخي والعتاقة، وفق أسلوب تعبيري يكاد يخلو من الكتل غير المقروءة إلا فيما أتقصد وجوده من خلال الرمز”

تتميز أعمال الفنان إسماعيل أبو ترابة بحس مرهف ومواكبة للأحداث الجارية، ويهتم في معظم لوحاته بالمرأة كنموذج متفرد للعطاء والجمال وتحمل المسؤولية، ويناقش بموضوعية معاناتها خاصة أمام الأحداث الجارية من حروب وتهجير وتدمير.

يقول: “ المرأة هي الأم.. والأخت والحبيبة، هي الحضن الدافئ والبيت السعيد، تجدها معلمة عطوفة، وطبيبة وممرضة متفانية، تشبه شجرة السنديان الصامدة أمام عثرات الحياة، هي ربة الينبوع، وعنوان الحضارة والرخاء على مر العصور

كما يحلو له تأمل الطبيعة وجمالها الذي يأسره إبداعها ويدفعه نحو استكشافها ومحاولة التعبير عنها في لوحات تجمع بين الحياة والموت، والعتمة والضوء، واللمسات الحائرة بين المحدودية والمدى، تلك اللمسات التي تحمل فلسفته الخاصة، وحسه الصوفي، يقول أبو ترابة: “إن اختزال المعرفة لمضامين فكرية وإعادة نسجها في خيالك من جديد؛ يجعلك كثير التأمل، شديد الملاحظة، دقيق الرؤية، مما يدفعك لتحويلها إلى لوحات تحتضن تجربتك الخاصة بأبعادها النفسية”.

نرى ذلك فيما حاول الفنان إسماعيل أبو ترابة التعبير عنه بالكلمات والجمل الشاعرية التي علق بها على بعض لوحاته، في محاولة لإيصال إحساسه باللون والتشكيل إلى المتلقي باستخدام اللغة التي ترقى لهمس الشعراء، فيتنقل بالمتلقي بين الفصول، يقول: 

هل كل ما نراه في الوجود حقيقي فعلا؟ هل كل الوجوه الباسمة يعمها الفرح؟ هل الطبيعة كما نراها بأعيننا أم كلٌّ يراها كما يحب أن تكون؟

غيوم بيضاء تتسارع خجلى في سمائي.. شمس تعبرنا قليلا وتختفي.وبينهما آذار بثوبه الأخضر.. يطل برأسه المزهر؛ لينشر عطره في كل الحقول.

سألبي دعوتك لي آذار.. سأهجر الأماكن وأسابق الفراشات وأغني مع العصافير، واستلقي على سندسك الأخضر وألتحف شمسك.. وأنسى كل دنس الحياة.

ويخاطب الصقيع في تشرين قائلا: 

“تشرين مهلا أيها القاسي، تجمدت الدماء في عروقي، وتيبست كل أصابعي.. رباه! كم البرد قارس، ونوافذي المشرعة تتقاذفها كل الرياح العاتية، ومنزلي تبكيه كل حجارته المتناثرة

تشرين.. مهلا! أنا بشر يسكنني الريح والبرد والعراء، خذوني مغمض العينين وألقوا بي بين أحضان الطبيعة، دعوني مستلقيا للشمس والريح والمطر علني ارتحل للهدوء والسكينة بصمت المكان، علني اغتسل من دنس الواقع الممل وأنبت من جديد.

وعن الشتاء يقول: 

“انصرف الخريف، وجاء الشتاء بعباءته السوداء الداكنة، وبرده القارس، وجليده الجاثم على صدورنا، ننتظر بلهفة بعض الدفء وشعاع شمس من خلف الغيوم أملا بربيع قادم، فهل لخريف العمر مطر يتلوه ربيع؟”

ثم لا يغيب عنه ما يعانيه اللاجئون في مثل تلك الأجواء، من شيوخ وأطفال ونساء:

“صوت المطر على زجاج نافذتي له إحساس لا يماثله إحساس، يأخذني شرود وأنا ألف الأغطية بإحكام حولي في يومي البارد، يأخذني الى هناك الى من يقبعون تحت خيام مهترئة، أو في العراء، أطفال ونساء وشيوخ، صرخت بأعلى صوتي: إلى متى أيها العالم؟ إلى متى أيتها الإنسانية؟

ولم تتوقف تجربة الفنان – فيما جرت الحروب على الناس – عند هذا الحد، فقد قدم الكثير من الأعمال التي ترصد ذلك وتبين معاناة الناس من ترحيل وجوع وتشريد، يقول حول هذه الأعمال:

“من نافذة الحلم خرجت، طائر أنا.. أدور وأدور بكل الاتجاهات، مدن وبيوت صامته يلفها ضباب.. أبواب مغلقه وأناس يحتجون بصمت قاتل، وددت أن أصرخ، وقفت معهم صامتا محتجا ثائرا متمردا.. ولكن لم يهتم لوجودي أحد!

طفلتي لا تنظري للبعيد لن يصل أحد، عفوا بني لا ثياب جديدة في المدى المنظور، عائلتي أرجوكم لا تنظرون إليّ هكذا، ليس لدي أية حيلة، ولا أستطيع أن أرسم لكم قمرا يشبه الرغيف، الأفق مغلق أمامي.. وكل الأبواب والنوافذ موصدة ولا أعلم هل أنا في واقع أم خيال؟ أم أني في وطن لا يشبه وطني.

البرد قارس، مواقدنا يجتاحها الصقيع، النافذة مغلقة حقا، لكن الزجاج أخذته الريح، المارة لا يلتفتون، لا يسمعون، لا يرون، نحن هنا بضاعة الموت ألا تشترون؟

لم يبق شيء يسد الرمق، توقف الضوء ونخر البرد العظام، لا وطن يحتوينا، كل الطيور مهاجرة، حملتُ أسمالي المهترئة ومشيت.. مشيت مكرها وأرتال من الجياع تتبعني.. مهاجرون نحن. ولكن إلى أين؟”

لكنه رغم ذلك يتحلى بالأمل والصبر، فثمة في الأفق قمر يضيء، والعتمة لابد ستنقشع: 

بينما يتعالى الصخب ويفيض الألم والقهر عن حافة الجوارح المتعبة، تنساب الروح هاربة من الجسد، تشهق نحو السماء، ترتمي بأحضان القمر الساكن لترشف لحظات من السعادة وتلتمس بعض الهدوء، ما أحوجنا للهجرة لصفو السماء، للهروب الى القمر.

 هل ستدع عتمة الشتاء تحول بيني وبينك؟ حرك الريح وامتط صهوة جوادك، ونادني بأعلى صوتك فلن يسمعك إلا أنا، ولنسابق الصباح قبل الشروق؛ فالعمر أيا صاحبي برهة يغتالها الزمن، بعد ليل طويل معجون بالعتمة والضياع، سينبلج صباح منسوج بخيوط الأمل والمحبة، هناك متسع في أيامنا المعدودة للحب والحياة والأمل.. ابتسم للشمس والزهر والنسيم؛ فغدا أجمل إذا شئته أن يكون.”

وعن علاقته باللون واستخدامه في التجريد، وعما إذا كان من المحبب أن يسمي الفنان لوحاته قال: 

“حين يعجز اللسان عن البوح بما يخفي القلب، ينتقل للتجريد عله يوحي بما يريد قوله أو يدور في فكره، ويبقى العمل انسجاما خفيا بين الأشكال والألوان التي يختارها الفنان؛ فتحاكي موسيقى القلوب، وتمنح متعة الرؤية.

أما هل يجب أن يكون للوحة عنوان؟ إن العنوان تُحبس فيه اللوحة كما تحبس داخل إطارها للابد، فإن كان نعم، فهل أجد لديكم عنوانا للوحاتي هذه؟

ويبقى في النهاية ما قدمه الفنان التشكيلي السوري إسماعيل أبو ترابة من الثقافة البصرية ومن دراسة اللوحة وفهمها، وتحليل دلالاتها التشكيلية، وتذوق ما وجد من جماليات الطبيعة والحياة وخلاصة السحر فيها، ماثلا فيما قدم ويقدم من إرث فني.


إسماعيل أبو ترابة فنان تشكيلي سوري مواليد صلخد – محافظة السويداء عام 1949، درس بجامعة دمشق الرياضيات والفيزياء، وقبل تخرجه بعام انتقل إلى كلية الفنون الجميلة، حيث تخرج من قسم النحت عام 1973، وحصل مشروعه للتخرج على مرتبة الشرف وكان بعنوان: “السلام”.

عمل مدرساً لمادة التربية الفنية في سورية ثم انتقل إلى المملكة العربية السعودية، شارك في العديد من المعارض الفنية في سورية وخارجها وتم تكريمه من اتحاد الفنانين التشكيليين السوريين على مسيرته الفنية.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s