أبرار مصطفى
اللوحة: الفنان التشيكي جاكوب شيكانيدر
نصوص لشباب واعدين في مقتبل الكتابة
كنت في العشرين من عمري عندما أتىٰ لنا صديق أبي ليخبرنا أن أبي أصيب بسكتة قلبية مفاجئة أثناء مزاولته لعمله وعلى إثرها قد توفى، صُعقت من هول الصدمة فكيف لهذا أن يحدث؟
لكن أمي المسكينة لم تتحمل هذه الصدمة ووقعت مغشياً عليها، ولم تنج من وقعتها تلك، فقد لازمها كرسي متحرك إلى الأبد.
مرت أيام العزاء ثقيلة كالجبال رغم أني كنت مشغولاً جداً في إجراءات وفاة أبي، فكرت كثيراً بأن أذهب إلى غرفة أمي ربما أستطيع التخفيف عنها، ولكن في كل مرة كنت أعود أدراجي مرة أخرى خوفاً من أن تخونني عبراتي أمامها فأزيد ألمها. وأخيراً استجمعت شجاعتي وذهبت إلى غرفتها وطرقت بابها وانتظرت إذنها لتسمح لي بالدخول، لكنها لم تُجب عليّ، فظننت أنها ربما تكون نائمه وعندما هممت بالرجوع مره أخرى لم أستطيع لأن شوقي لها كان كبيراً جداً، فقلت في نفسي حتى لو كانت نائمة سألقي عليها نظره سريعة وأخرج، عندما دلفت إلى غرفة أمي وجدتها ساكنه على سريرها تنظر إلى سقف الغرفة، تساءلت في نفسي: لم تسمح لي بالدخول وهي مستيقظة على سريرها؟ اقتربت ونظرت إلى وجهها الذي أشتاق لرؤيته دوما، فرأيت أن الحزن قد نهش ملامحها وكأنها ابنة المئة عام، اقتربت قليلاً منها لكنها لم تحرك ساكنا، صرخت بأعلى صوتي: أمي أمي.. ما بكِ يا أمي ألا تسمعينني؟ أنا أحمد!
ظلت أمي كما هي على نفس حالتها وكأنه لا يوجد أحد غيرها بالغرفة، إنها لاتشعر بوجودي، ولا تسمع صوتي، ولا تحرك ساكنا.
أصبحت كالطفل الصغير الذي لا يشعر بما يفعل، ذهبت مسرعاً إلى أختي أسماء التي تكبرني بعامين لأسألها عما حل بأمي، صارخا: أسماء.. ما هذه الحالة التي عليها أمي؟؟
قامت أسماء فزعة من دخولي عليها فجأة وقالت: ما بكَ يا أحمد ماذا حدث؟؟
قلت بعصبية: لقد أوصيتك بأمي أثناء فترة عزاء والدِنا، كيف تركتيها في تلك الحالة؟
قالت أسماء بعدم اكتراث: نعم لقد قلت لي شيئاً كهذا، ولكن ما سبب كل هذا الغضب يا أحمد؟ قلت والدماء تغلي بداخلي: لماذا أهملتيها هكذا؟ أليس من واجبك رعايتها أثناء إحتياجها لذلك؟؟
قالت أسماء بعصبية مفرطه: من أنت لتتحدث معي هكذا، لا تنسى أني أكبر منك سناً، وأيضاً هل قال لك أحد أني جاريه لوالدتك، فلتخدمها أنت أو اجعل سارة تقوم بذلك، فأنا لست ملزمه بخدمتها.
قلت والغضب قد سيطر على كل خليه في جسدي: أنت تعلمين أن سارة لا تقوى على هذه الأمور، ثم هذه أمكِ التي حملتك ورعتك، وسهرت الليالي من أجلك، والأن عندما احتاجتك إلى جوارها تقولين لا أريد رعايتها؟ ما هذا الجحود؟
قالت أسماء ببرود: فلتكف عن هذا الكلام، فهو لا يعني لي شيئاً، أنت تعلم أن أمي لم تحبني يوماً كانت دوماً تدللك لأنك ولدها الوحيد، وتدلل سارة أيضاً لأنها ابنتها الصغرى، أما أنا فكنت دائماً على الهامش، كنت البنت الكبرى المهملة التي تخطئ دائماً، والتي لا تتحمل المسؤولية، كنت في نظرها هكذا وسأظل هكذا، فهي لا تستحق أن أرهق نفسي من أجلها، أما بشأن حملها ورعايتها لي فهذا شأن كل الأمهات ولا فضل لها فيه، بالعكس، إنها كانت تتمنى أن ترزق بي، فأنا نعمة حلت عليها، أما أنا فلست مجبرة على رعايتها.
قلت لها وهي تهم بالذهاب خارج الغرفة: فلتسمعيني جيداً يا أختي، أقسم أني لن أتوانى عن خدمة أمي يوماً مهما كلفني الأمر، وأريد منكِ أن تتذكري كلامكِ الذي ألقيتيه على مسامعي الآن، واعلمي أنه كما تدين تدان، وسيأتي الوقت الذي سأذكرك فيه بكلامكِ.
بقيت في مكاني مدهوشاً من قسوة قلب أسماء، وإلى ما آل إليه حالها من جمود المشاعر، كيف لها أن تفعل ذلك؟ كنت أعلم أن أسماء تشعر بأن أمي لا تحبها كثيراً ولكني لم أتصور كل هذه القسوة.
ذهبت إلى أختي سارة التي تبلغ من العمر سبعة عشر عاماً لأطلب منها مساعدتي في تنظيف أمي وترتيب فراشها، فلم تتأخر عن ذلك ثانية، بالعكس، فقد حممتها بحنان، وألبستها ثيابها بمحبة وعطف، ونظفت فراشها ودثرتها فيه وأنا أدعو الله أن تعود أمي كما كانت من قبل فكم اشتقت لسماع صوتها الحنون وللمستها الدافئة، وقد أخبرنا الطبيب أن احتمال الشفاء ضئيل جداً.
كنت في غرفتي أصلي وأدعو لأمي بالشفاء، وإذ بأسماء تنتظرني، نظرت إليها والدهشة تعلو وجهي، ظننتها تريد الاعتذار عما بدر منها، لكنها قالت لي: أحمد إني أريد أن أحدثك بموضوع هام، ولكن أولاً أريد أن أعرف ماذا قال لك الطبيب عن حالة أمي؟؟
قلت: لقد قال إن حالتها صعبة ولكنه سيبذل قصارى جهده ليتم شفاءها على خير.
قالت: حسناً هذا جيد جداً.. جارتنا أم سالم تريد زيارتنا غدا.
اندهشت من هذا الموضوع قليلاً فمنذ وفاة أبي والحالة التي أصبحت عليها أمي لم يأتِ أحد لزيارتها. قالت لي أسماء هذا الخبر وذهبت سريعاً إلى غرفتها. بقيت في غرفتي أفكر في هذا الموضوع وتذكرت أنه قبل وفاة والدي كان قد تحدث معي أن جارنا سالم كان يريد خطبة أختي أسماء، دعوت الله أن يمر هذا الموضوع على خير ويلين قلب أختي على أمي.
في اليوم التالي استيقظت مبكراً وذهبت إلى غرفة أمي لأعطيها دواءها، ثم بدلت لها ثيابها، وبعدها أوصلت أختي سارة إلى مدرستها، ثم ذهبت إلى الجامعة.
وفي المساء عندما حان موعد زيارة جارتنا أخرجت أمي من غرفتها وأجلستها في صالة المنزل، حتى ولو لم تكن تشعر بما يحدث فيجب أن تكون معنا في هذا المجلس.
تزينت أسماء وجاء الضيوف وقالو أنهم يريدون خطبة أسماء لسالم إبنهم، نظرت إلى أسماء ووجدتها مطرقه رأسها من الخجل، فعلمت أن ذلك تأكيد على موافقتها التي أعرفها جيدا، وظننت أنه بعد إتمام هذه الخطبة سيلين قلبها قليلاً على أمي، وافقنا على الخطبة وأن الزفاف سيكون بعد شهور قليلة، ولكن حال أسماء لم يتغير أبدا، فقد انشغلت أكثر وزاد عنادها وتفكيرها الخاطئ بأمي أكثر.
كنت أنتظر معاش أبي لأشتري لأمي دواءها ومستلزمات أخواتي، واليوم حل موعد زفاف أسماء، أقمنا حفلاً بسيطاً وحمدت الله أن أسماء لم تعترض على هذا الأمر، فكنت أريد أن أراعي ظروف أمي وأيضاً وفاة والدي، تزوجت أسماء وذهبت لبيت زوجها، ومازال حال أمي كما هو، أتناوب أنا وسارة على خدمة أمي، انتهت الامتحانات النهائية، تفوقت سارة في دراستها، ونجحت في الاختبارات بنسبة تؤهلها لدخول كلية الطب، قفزت من السعادة، ستكون سارة أخيرا زميلتي بالكلية؛ لنحقق حلم أمي وأبي.
كانت أسماء تسأل عن حالنا بين آنٍ وآخر، وأحياناً تأتي لرؤيتنا عندما تكون في زيارة جيراننا- عائلة زوجها- ومازالت على نفس موقفها مع أمي، لكنها هذه المرة أتت لتخبرنا أنها ستسافر هي وزوجها إلى خارج البلاد، حزنت على فراقها، فمهما فعلت ستظل أختي.
ذات يوم بينما كنت أحضر أحد التدريبات العملية، تلقيت اتصالا من سارة تخبرني بضرورة عودتي إلى البيت، شعرت بالخوف وعدت مسرعاً، فوجدت أختي تبكي وقالت بصعوبة من بين أنفاسها المتحشرجة: لقد.. نطقت أمي يا أحمد.
لم تصدق أذناي ما سمعتا وذهبت مسرعا لغرفة أمي فتحت الباب على مصراعية، رأيت أمي ممددة على فراشها، وضعت رأسي على صدرها متشوقاً لسماع صوتها، نظرت أمي إليّ وقالت وهي مبتسمة: يا بني لقد اعتنيت بي كثيراً أنت وسارة وإني راضية عنكما يا ولدي وأدعو الله أن يجعلكما من سكان الفردوس الأعلى، سأذهب إلى الذي خلقني.. ادعوا لي بالرحمة يا ولدي.
لم أصدق ما سمعت حتى أني لم أستوعب آخر ما قالته أمي، وسجدت لله شاكراً أنه أسمعني صوتها، قمت من سجودي لأروي شوق أُذنيّ لسماع صوتها، ولكن فجأة دب الرعب في أوصالي عندما نظرت إلى أختي سارة التي كانت قد دخلت معي إلي الغرفة ورأيتها تحتضن أمي وتبكي بشدة، لقد فارقت أمي الحياة”
عندما علمت أسماء بخبر وفاة أمي أتت من البلاد التي كانت فيها، دخلت إلى البيت والسواد يغطيها وقالت لي: أحمد اين أمي؟ أريد رؤيتها أريد أن أعتذر منها أريد أمي.
أنخرطت أسماء في بكاء حاد فلم أكن أتصور أنها ستحزن هكذا على موت والدتي فقلت لها: أسماء لقد توفت أمي يا أسماء، وقد فات الفوت.
قالت والدموع تنهمر من عينيها: أريد أن أعتذر منها على ما بدر مني تجاهها، على إهمالي لها، لقد قصرت في حقها كثيراً يا أحمد ولم أعلم هذا إلا عندما غادرت الحياة.
قلت لها محاولاً تهدئتها: إن الندم لا ينفع الآن يا أختي، لقد رحلت أمي عن عالمنا، فلتدعي لها بالرحمة والمغفرة وأن يسامحك ِ الله على ما فعلت.
أسماء: لقد عاقبني الله عقاباً شديداً، لقد حرمني الله من الإنجاب يا أحمد، لن أشعر بالامومة أبدا.
قلت لها: لا تقولي هذا الكلام يا أسماء، فأنت لا تعلمين ماذا يخبئ الله لك من خير أو شر، لقد نصحتك ِ ولكنك لم تستمعي إلي.
قالت أسماء بندم: ليتني استمعت إليك، أتمنى أن يعود الزمن إلى الوراء وأظل طوال حياتي تحت أقدام أمي.
“هكذا هي الحياة، وهذا هو حال الإنسان، يظل مستمراً في عناده وكبره إلى أن يأتي اليوم الذي يتغير فيه كل شيء، وحينها يكون الأوان قد فات ولا سبيل للعودة”.