خالد جهاد
اللوحات: من أعمال الفنانة اللبنانية هناء عبد الخالق
فنانةٌ خاصة بأسلوبٍ مختلف يمتاز بالسلاسة والجمع بين جمال الصورة ونبض الألوان ودفء الرسائل في أعمالها، لتطبع بصمةً مميزة وتقدم لوحاتها بنفسٍ شاعري يحاكي الأرض التي تسكن مخيلتنا، والمدينة التي يربكنا زحامها وتجعلنا نشتاق إلى لبنان الذي داعب أحلامنا الممتلئة بالفرح وحب الحياة، وشكل جزءاً من وجداننا فيبعث كطائر الفينيق وجهاً زاهراً ومشرقاً في تجلياتٍ وجدانية بتوقيع الأستاذة والفنانة اللبنانية هناء عبد الخالق.
كثيرون هم من قاموا بتدريس الفن دون ممارسته، لكن الجمع بينهما يتطلب فناناً ذا طبيعةٍ مختلفة متجددة نابضة منتجة متفتحة، قادرة على الموائمة بين النظريات والأبحاث وميراث الفنون عبر التاريخ والحضارات والبلاد، وبين ممارسته التي تحتاج إلى تماسٍ مباشر مع الواقع وحساسيةٍ كبيرة لمكوناته، ولفهم طبيعة العصر وتقلباته السريعة وتطوير الأدوات الفنية بشكلٍ مستمر، عدا عن خلق خط وهوية لها تشبهها وتشبه بيئتها.
ولعل النتاج الفني الكبير لفنانتنا يؤكد على ذلك، فلم تنفصل كأستاذة في الفن وعلوم الفن في الجامعة اللبنانية عن حالتها الخاصة كفنانةٍ مستقلة تماماً، لها طريقتها واحساسها بالأشياء وانطباعات ٌ تعيد تشكيلها في لوحات ٍ مميزة تشبه لبنان، فهي رغم سعة اطلاعها وتجربتها وتنقلاتها إلا أنها لم تسقط في فخ محاكاة النمط الغربي بشكلٍ كامل، بل ظلت هناك بصماتٌ لبنانية متواجدة ثبتت هويتها الفنية وظلت تشير إلى خصوصيتها وجذورها، فكثيرٌ منها يعود ببساطته إلى الحياة الهادئة في القرى الريفية محاكياً مختلف عناصر الطبيعة من أشجار ٍ وأنهارٍ وطرقاتٍ وتلالٍ وبيوتٍ تميزها، وتجعل المتفرج في حالة ٍ من الشجن والحنين إلى الماضي من خلال إيقاع ٍ هادئٍ ورصين يتسرب إلى الوجدان، ويصله بنفسه التي كثيراً ما تتوه منه في زحام الحياة وايقاعها السريع بشكل ٍ غريب.
ونرى أيضاً رغبةً في الحلم وجعله خياراً ممكناً في مختلف أعمال الفنانة هناء عبد الخالق من خلال مساحاتٍ واسعة تحلق فيها الطائرات الورقية، وتعيد الأطفال إلى اللعب والركض في الطرقات والاستمتاع بالتحليق في فضاء ٍ أكثر رحابة يتسع للإنسان والحب والتأمل، ويطلق العنان للمخيلة دون أن تصطدم بالمباني الإسمنتية الشاهقة والاختناق المروري والتلوث البيئي، وكأنها تخلق عالماً تتمناه ويتمناه الكثيرون ويحلمون فيه بعودة المساحات الخضراء، والهدوء والدفء الذي بتنا نفتقده في زمننا الحالي.
كما أن الزمن عنصرٌ مهم يثير التساؤل في لوحات فنانتنا، وكأن هناك ما يشي بوجود سباقٍ سريٍ ومحمومٍ معه من خلال عدة رموز وأبرزها المرايا أو أشكالها من خلال نماذج خاصة جداً استعرضتها ضمن لوحاتها في معرضها الفني الأخير (رؤى محدبة)، وتعطي للمتلقي حالةً أشبه بالتنويم المغناطيسي فيجد نفسه يدخل في هذه الرؤى وكأنه في دوامةٍ تنصهر بداخلها كل المتناقضات بين الماضي والحاضر، والمدينة والريف، والزحام والهدوء، كما استعرضت موضوع الهجرة والحيرة تجاهها بين من يتمناها ويرفضها، متشتتاً بين عقله وقلبه في مجموعة ٍ من المرايا ورمزت لها بالقوارب وأمواج البحر التي تعكس الواقع بذكاء، وتشير أيضاً إلى لبنان وأزماته الداخلية في نفس الوقت، فتذكر الجمهور بماضيه لتدفعهم لتغيير حاضره وإعادته مستقبلاً إلى مجده الذي عاشه ويليق به أن يعيشه، بعيداً عن شبح الحرب والتناحر بين الأشقاء.
ونلمح حالة ً من الحنين والتوق إلى الاستقرار التي تجمع اللبنانين وكثيراً من العرب وشعوب العالم، لكن من خلال رسمها لواجهات بيوتٍ تراثية بيروتية وتشمل أيضاً عدة أنماطٍ تضيء عليها بخفةٍ ورشاقة من مناطق لبنانية مختلفة، تأتي مكملةً في حالة من التوأمة مع حضور الموسيقى وأيقوناتها وأشكالها ضمن لوحاتها وكأنها قصيدة ٌ تحمل صفات العمل الفني المتكامل والمتنوع لكنه يظل حاملاً لبصمة صاحبته.
وكأي مواطنةٍ لبنانية وعربية لا تخلو مسيرتها من لوحاتٍ تحمل أفكاراً جريئة على طريقة (الكولاج)، وتستعين بصورٍ مختلفة وقصاصاتٍ من الصحف الورقية التي تشير فيها إلى الصعوبات والصراعات على أرض الواقع، الى جانب رموزٍ هامة كالأحجار المتحركة على رقعة الشطرنج وتحكي بمرارة عن المخاوف التي يبعثها شبح الحرب الأهلية من حينٍ لآخر، ورثاء بيروت كرمزٍ يعبر عن لبنان في عددٍ من الخواطر التي ترفقها مع لوحاتها عند نشرها على صفحتها الشخصية على الفايسبوك، وتتحدث عنها كرمزٍ للحضارة التي أصبحت ملتفةً بدخان الموت، والمشاكل والتعقيدات التي زادها تفشي جائحة الكورونا وما أعقبه من آثارٍ سلبية على كافة المستويات في لبنان كما حصل في كل بلاد العالم.
لكن تظل الفنانة اللبنانية هناء عبد الخالق في حالة ٍ من النشاط والتوهج الفني المدعوم بمشاركتها في العديد من المعارض والندوات داخل لبنان وخارجه، كما تستمر في نشاطها الأكاديمي مع طلابها وتنشر العديد من الدراسات والبحوث والمقالات، الى جانب كتابها «فن التجهيز .. إشكالية العلاقة بين المبدع والمتلقي»، كما رأينا بعض أعمالها كجزءٍ من عملٍ فني آخر مثل غلاف رواية (عطب الذاكرة) للأستاذ سالم الغزولة، وأيضاً توأمة بعضٍ من لوحاتها مع معزوفة للفنان أحمد حبصاين في عمله الموسيقي (رؤية شرقية).
ولا يمنع ذلك تمسكها بالأمل الذي نراه مصحوباً بابتسامتها التي تنعكس على أعمالها الفنية، والتي تصر على رؤية بيروت ولبنان مكاناً للسعادة والفرح، من خلال رسمها لهم مع العديد من الطيور الحالمة والحمامات البيضاء التي تغازل شرفات البيوت وتطوف في سماواتها، وتصل لحظات الماضي الجميلة بالأمل في غدٍ مشرق، مدركةً بأن الليل مهما طال سيعقبه الصباح.
الدكتورة هناء عبد الخالق فنانة تشكيلية لبنانية، باحثة وأستاذة جامعية. أمين سر جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت من عام 2019 حتى اليوم.
أقامت ثلاث معارض فردية والعديد من المشاركات في لبنان والخارج. المعرض الأول 2010 بعنوان انعكاسات.. تصوير زيتي ومائي. المعرض الثاني 2014 بعنوان أحلام في زمنٍ هارب.. تصوير وتجهيز. المعرض الثالث 2019 بعنوان رؤى محدبة. كما شاركت بعدد من المعارض والسمبوزيومات في لبنان والخارج. وصدر لها كتاب بعنوان (فن التجهيز: إشكالية العلاقة بين المبدع والمتلقي) صادر عن دار المؤلف بيروت 2019
إيميل الفنانة
hanaa.khalek@gmail.com
