اللوحة: الفنان الإنجليزي جون فردريك لويس
تناول الكاتب في المقال السابق كيف بيَّن الجبرتي أن الضيافة ومكارم الأخلاق، وواجبات رعاية المسافرين، كانت جزءًا أساسيًا من منظومة الحياة الاجتماعية المصرية. كما أن هناك كتابات أخرى معاصرة له أو جاءت بعد زمانه بقليل، تناولت القضية نفسها. فقد اهتم علماء الحملة الفرنسية بالتوقف على بعض عادات المصريين؛ فكتب دي شابرول: “المصريون أسخياء بطبيعتهم، بل مجبلون على فعل الخير. إن أولئك الذين استطاعوا منهم بفضل مكانتهم ونفوذهم وثروتهم ألا تنالهم مظالم وانتهابات الحكام الطغاة، يعيشون فى بيوتهم فى أبهة وترف ويقومون عدة مرات فى العام بتوزيع الهبات والعطاءات”. وفي هذا المقال يتوقف الكاتب عند عادات الضيافة في أرياف مصر، وتأثر هذه العادات بالتطورات التي حصلت مع صعود الدولة الحديثة، ومحاولاتها وضع حدا لاستمرارية تقاليد المجتمع الوسيطي.
بعيدًا عن بيوت الأعيان وكبار البكوات المماليك، يقترب بنا إدوارد وليم لين من صورة مغايرة، لدى أبناء الطبقة المتوسطة والدنيا (الحضرية)، صورة تعبر عن عادة تلقائية؛ إذ كان من الشائع كذلك “تناول العشاء أمام أبواب المنازل، وخصوصًا إذا كانت البيوت منعزلة، فيدعون كل مار مهيب الطلعة إلى مشاركتهم الطعام”.
بيد أن “عادة الضيافة” تظهر بوضوح أكثر، وفى إطار من التقاليد المتوارثة والمتأصلة فى التكوين الاجتماعى والثقافى فى الريف المصرى، وهو ما تفيض به كلمات الجبرتي:” إن أهل القرى والأرياف فيهم من مكارم الأخلاق ما لا يوجـد فـيغيرهـم مـن أهـل قرى الإقليم، فإن أقل ما فيهم إذا نزل به ضيف، ولو لم يعرفه أجتهد وبـادر بقـراه فـي الحـال وبـذل وسعـه في أكرامه وذبح له ذبيحة في العشاء”. هذه التلقائية المعبرة عن سجية الريفى الأصيل، مقارنة بأهالي المدن الكبيرة، أدهشت المستشرق إدوارد وليم لين، والتى راق له تفسيرها فى إطار تعاليم الدين الحنيف، استنادًا إلى قصة استضافة نبي الله إبراهيم (عليه السلام) للملائكة كما ورد فى التوراة والقرآن الكريم، وأن السُّنة تتيح طلب الضيافة من أى شخص قادر على استقباله لمدة ثلاثة أيام. وبيَّن أن أهالى الريف وكذا بدو الصحراء يسارعون إلى استضافة كل من ينزل بهم:” فالشيخ يأمر زوجته أو غيرها من النساء فورًا بإعداد الخبز وذبح خروف أو أى حيوان آخر وطهوه بسرعة. وفى غمضة عين يحضر الحليب وألوان الطعام الأخرى إضافة إلى الخبز واللحم المشوي أمام الضيوف الكرام الذين يطئون أهلاً ويحلون سهلاً”. وعزا غياب “عادة الضيافة” هذه عند أهالى المدن الكبيرة “إلى توفر الوكالات والخانات؛ حيث يمكن للغريب المبيت فيها والحصول على الطعام بكل سهولة، عكس الغريب إذا وصل إلى أحدى القرى يحل ضيفًا على شيخ القرية أو أحد سكانها”.
وكانت الدولة قد استودعت تحت يد شيوخ القرى مساحات كبيرة من الأطيان الزراعية، عُرفت بـ”مسموح المشايخ” أو “مسموح المصطبة”، خُصِص ريعها للإنفاق على “واجب الضيافة” لكل مَن ينزل بقراهم من المسئولين والوجهاء “السفار والأجناد”. وقد ورثها شيوخ القرى خلفًا عن سلف. وتباينت مساحاتها من قرية إلى أخرى، وأيضًا بحسب نفوذ شيوخ القرى وقوة عائلاتهم، وتمسكهم بهذا الدور وقيامهم بأعبائه. ويخبرنا الجبرتى فى قصة الشيخ عارف، شيخ سوهاج، بأن مسموحه من الأطيان بلغ 600 فدانًا، وأن هذه المساحة الكبيرة كانت مخصصة لعائلته على مدار عدة أجيال؛ نظير بقاء منزلهم مفتوحًا أمام المسافرين من جميع الطبقات ” الأكابر والأصاغر والفقراء والمحتاجين، فيقرى الكل بما يليق بهم ويرتب لهم التراتيب والاحتياجات، وعند انصرافهم بعد قضاء أشغالهم يزودوهم ويهاديهم بالغلال والسمن والعسل والتمر والأغنام وهذا دأبه ودأب أسلافه من قبله على الدوام والاستمرار”. لقد استمر منزله مفتوحاً لاستضافة المسافرين من جميع الطبقات لعدة أجيال، ربما باستثناء عهد محمد على باشا؛ سوف يتعرض بيت الشيخ عارف للتضييق عليه.
وفى خط متوازٍ مع “مسموح المشايخ” ، كانت هناك مساحات كبيرة أخرى من الأراضى، بعضها أوقاف، والبعض الآخر رزق إحباسية، رصدها الأهالى للإنفاق على أوجه البر والصدقة، وكانت جميعها تُدرج تحت بند “مصارف الولاية”. ويقول الجبرتى أن أهلى الخير المتقدمين رتبوها لأربابها “رغبة منهم في الخير وتوسعة على الفقراء والمحتاجين وذوي البيوت والدواوير المفتوحة المعدة لإطعام الطعام للضيفان والواردين والقاصدين وأبناء السبيل والمسافرين.
لقد كان أهالى الريف يعبرون، فى الحقيقة، عن تراث مستمر من العادات والتقاليد المحلية التي استطاعت دمج المجتمع الريفى بعضه ببعض، بصورة غابت معها نسبيًا حدة الانفصالية/ والروح الفردية والتظاهرية الملحوظة فى المجتمع الحضرى. وقدم الجبرتى فى حولياته نماذج عديدة للشخصيات التي ذاع صيتها فى الكرم وحسن الضيافة فى الريف المصرى كشيوخ الحبايبة والهوارة. ويبدو شيخ العرب همام الصورة الأبرز بين النماذج التي دون لها الجبرتى باهتمام ملحوظ، فيقول فيه:” همام وما أدراك ما همام… من الناس من كان يذهب إليه في كل سنة ويرجع بكفايـة عامـه، وهذا شأنه في كل من كان من الناس... وأما إذا كان الوافد عليه من أهل الفضائل أو ذوي البيوت قابله بمزيد الاحترام وحياه بجزيل الأنعام. وكان ينعم بالجواري والعبيد والسكر والغلال والثمـر والسمـن والعسـل. وحالـه فيمـا ذكـر مـن الضيفـان والوافديـن والمسترفديـن أمـر مستمـر علـى الـدوام لا ينقطـع أبـدًا. وكـان الفراشـون والخـدم يهيئـون أمر الفطور من طلوع الفجر فلا يفرغون من ذلك إلى ضحوة النهار، ثم يشرعون في أمر الغداء من الضحوة الكبرى إلى قريب العصر ثم يبتدئون في أمر العشاء وهكذا... وكـان لـه صلات وإغداقـات وغلال يرسلهـا للعلماء وأرباب المظاهر بمصر في كل سنة. وكان ظلا ظليلا بأرض مصر”. ومن هنا نفهم لماذا تأسف المصريون طويلا على النهاية المحزنة لهذا الشيخ على يد على بك الكبير ومماليكه.
الدولة الحديثة وترشيد نفقات الضيافة والاستقبال
شكل مجيء الحملة الفرنسية استمرارية بدرجة أو بأخرى لقيم وعادات المجتمع، التي حرص الفرنسيون على عدم المساس بها، وخاصة ما ارتبط منها بالدين أو التنظيم الاجتماعي. وأبدوا احترامهم للأوقاف وللأراضي المخصصة لجهات البر والضيافة بما في ذلك مسموح المشايخ.
على حين تبدل الوضع مع مجىء الدولة الحديثة، فى عصر محمد على باشا، الذى استندت سياسته إلى فلسفة مختلفة، تقوم على زيادة الإنتاج والموارد فى مقابل ترشيد النفقات وأوجه البذخ، وبما يتناسب كذلك – وهو الأهم – مع حجم المشروعات العمومية التي كان ينهض بها الباشا، والتى كلفت الخزينة أموالاً طائلة، جعلته يغير من طريقة الإنفاق الشرفى والاحتفالي، واختزال عدد المدعوين، فى المناسبات والاحتفالات، من خلال “أوراق التنابيه” التي كان يرسلها إلى جماعة النخبة والأعيان المرتبطين به وبمشروعاته: فـ” مطبخ الميرى صارت الأطعمة تؤتى منه لأرباب المظاهر، في وجبتي الغداء والعشاء خلاف المطابخ الخاصة بهم وما يأتيهم من بيوتهم…أما أهل الاستحقاق فقد ” ظلوا يتلظون من القشل(١) والتفليس مع ما هم فيه من غلاء الأسعار في كل شيء”.
ومن الواضح أن عقلية جيل الجبرتي لم تستوعب بعد توجهات محمد على باشا المتمركزة على توفير أكبر إمكانات مادية للخزينة، حيث المشروعات التي يفكر فيها تحتاج إلى أموال كثيرة وخلق موارد جديدة. ولذا نجده يصف محمد على باشا بأنه” من طبعه الحقد والحسد والتطلع لما في أيدي الناس “. لقد قال الجبرتي هذه العبارة بمناسبة ما قرره محمد على باشا من غرامة كبيرة على أحد موظفي الروزنامة ( ويدعى احمد أفندي ججرت) لأنه حين آتاه بدفتر الفرضة بأسيوط ، وشاهد هيئته الضخمة المتأنقة، أخذ يترقبه عبر عيونه الذين اخبروه أن ” بيته مفتوح للضيفان ويجتمع عنده في كل ليلة عدة من الفقراء يثرد لهم الثريد في القصاع ويواسي الكثير من أهل العلم وغيرهم”. وهو ما اعتبره محمد على دليل على غني أفندية الروزنامة وإسرافهم، فقرر تقليم أظافرهم. إن أفندية الروزنامة المتبقيين من عصر البكوات، باتوا تحت المجهر يرقبهم النظام الجديد، ولا يسمح لهم بالتظاهر بالعطاء والبذل للفقراء. لقد بدا أن محمد على باشا يفرض على العناصر البيروقراطية الكلاسيكية التخلي عن ثقافة العطاء والبذل بغير حساب، تلك العادة التي كانت جزءاً أساسيا من الممارسات شبه اليومية المعتادة فيما قبل القرن التاسع عشر، وأن الدولة أولى بما ينفقونه في جهات صرف يمكن اختزالها حتى ولو كان ذلك على حساب الفئات الفقيرة أو المعدمة. لقد شكَّل ذلك تغيراً واضحاً في مفهوم السلطة لـ ” ايديولوجيا الاستهلاك”.
مثَّل ذلك نقطة فارقة بين عصر البيوت المملوكية وكبار الأعيان القائم على فلسفة الانفاق الشرفي، وبين عصر الدولة المركزية القائم على فلسفة الترشيد. أن أيام الولائم العامة التي كان يترقبها الفقراء والعطاءات شبه اليومية بدت في نطاق ضيق. وتأكد للناس ذلك، حين جاءت مناسبة زواج أبناء محمد على باشا، ليجدوا الأحتفالات تتم في نطاق النخبة من رجاله وكبار موظفيه، وداخل دائرة ضيقة منهم، وصارت تُحدد بإرسال” أوراق التنابيه للمدعوين على طبقات الناس بالترتيب”. لم يعد الأمر مشاعًا، يطرح للعوام نصيبًا فى مطابخ الميرى فى الاحتفالات والمناسبات العمومية كما كان في السابق.
كذلك الحال مع أهالى الريف: فقد صُودِرت أراضى الرزق والأوقاف الخيرية المرصدة على أعمال البر وإطعام المساكين والمحتاجين، وضُمَّت للميري، ورفض إبراهيم باشا شفاعة العلماء فى ذلك، ورد عليهم بقوله:” يشترون ما يأكلون بدراهم من أكياسهم أو يغلقون أبوابهم ويستقلون بأنفسهم وعيالهم، ويقتصدون فى معايشهم، فيعتادون ذلك، وهذا الذى يفعلون تبذير وإسراف، والديوان أحق بهذا…”.
وفيما يتعلق “بأطيان مسموح المشايخ” فقد أبقى عليها، لكنه حدد مساحتها بـ 5 % في نظير قيام الشيوخ بأعباء إدارة القرية، وكذا نظير ضيافتهم لرجال الباشا وكبار مسئولي حكومته. إن بيت الشيخ عارف شيخ سوهاج بالصعيد الذي سبقت الإشارة إليه، تعرض هو الآخر لهذا التضييق الشديد، وقرر إبراهيم باشا ألا يفرج له من 600 فدان سوى عن 100 فدان، ويقول الجبرتي أن ذلك تم ” بعد التوسط والترجي والتشفع” ، كما بين بأن محمد على فعل مثل ذلك بجميع أقاليم الصعيد(٢). وفيما بعد في عهد سعيد باشا ، تحديدا في عام 1857 سوف يفرض على جميع مسموح المشايخ ضريبة، ثم انتزعها منهم كلية في العام التالي 1858.
وضعت الدولة المركزية إذن حداً لاستمرارية تقاليد المجتمع الوسيطي، فحاصرت كثيرا من العادات والطقوس التي كانت مرتبطة بالضيافة العامة واحتفالات مد الموائد والأسمطة، عاملة ” بمبدأ الترشيد “تارة، ومعلنة عن إحلال الدولة المركزية محل البيوت المتنفذة القديمة التي كانت تتوزع السلطة وتبدد الموارد فيما بينها تارة أخرى. لذلك كان مما سهل إجراءات هذا التغيير الصعب، قضاء محمد على باشا على طبقة الأمراء المماليك في عام 1811، ومصادرة أراضي الالتزام الخاصة بها، مما أضعف طبقتهم الاجتماعية وأفقرها. ومن ناحية أخرى، عمل محمد على باشا على تضييق الخناق على كبار الأعيان والوجهاء (من تجار وشيوخ وعلماء وأفندية)، وفرق صفوف العلماء والمشايخ بتأليب بعضهم على البعض(٣)، وأحكم محاسبتهم. أحدث هذا تغيرا بنيوياً في الطبقة الاجتماعية وتوجهاتها والتي كانت ترعى التقاليد المتوارثة بشأن العطاءات العامة ومد الموائد والأسمطة في مواسمها المعهودة.
ولا شك أن التغير الاجتماعي في تكوين جماعة النخبة الجديدة سوف يتسبب في تغييرات متفاوتة بمرور الوقت في منظومة العادات والقيم والطقوس، وفقا لتوجهات الدولة المركزية الجديدة وانعاماتها من ناحية، ومن ناحية أخرى، حال الطبقة النخبوية الجديدة وحدود ثقافتها وقيمها الخاصة وما كانت تؤمن به إزاء المجتمع. تلك الطبقة الجديدة التي أعاد خلقها نظام محمد على باشا وأحسن توظيفها في توجهات سياسته الرشيدة البعيدة عن صور موائد البذخ وصنوف الاستهلاك المملوكي غير المنتجة. إن مدونات الجبرتي كانت بحق آخر شهادة تاريخية معاصرة على تلك الفترة من التحول البنيوي الثقافي والاجتماعي والتي من دون شك سجل بقلمه كثيراً من ملامحها على مدار يربو على النصف القرن. وفى المجمل يتبين أن أيام الولائم وعادة الضيافة بقدر ما ازدهرت في ظل المجتمع التقليدي (أيام المماليك)، بقدر ما ضاق نطاقها، وتغيرت طبيعة ممارستها فى الفضاء الاجتماعي الرسمي في القرن التاسع عشر.
(١)القشل: كلمة مصرية عامية مبتذلة ، تعنى الخيبة والفقر. إن هذه المقاربة التي رصدتها عدسة الجبرتي، تظهر قناعات الدولة المركزية الحديثة التي تبالغ في مظاهر الاحتفال، فيما الكثيرون من أهالى المجتمع يتلظون من قسوة غلاء المعيشة!
(٢)الجبرتي: المصدر السابق، ج 4، ص 291.
(٣)رءوف عباس : تطور المجتمع المصري في القرن التاسع عشر، القاهرة د.ت، ص 46 (نسخة الكترونية على موقع المؤلف www.RaoufAbbas.org).