وجه ملائكي

وجه ملائكي

محمود حمدون

اللوحة: الفنان السوري عادل داود كردي

 على رغم تجاوزه الأربعين، إلاّ أنه كان يبكى كطفل فقد أمه في الزحام، فقد انهمرت دموعه بغزارة على خديه، بعد أن حفرت مسارين واضحين لمن يجاوره في سيارة الأجرة، فرأفت به عجوز من الخلف، ربتت على كتفه، مواسية وبعينيها نظرة اشفاق تمتزج بحيرة من بكاء كهل عظيم الجسم مثله، ثم حدّثت نفسها بصوت هامس: مسكين، أكيد أصابته نازلة كبيرة، ثم انصرفت لشأنها بمراقبة أعمدة الإنارة المارقة جوار نافذتها.

ولما علا نحيبه، أخرجت فتاة من حقيبتها منديلًاورقيًّا، رجته أن يمسح دموعه، قالت له بصوت خفيض: البكاء يريح النفس، لكن احرص أن يكون بينك وبين الناس وقتها ساترًا، ثم دفنت رأسها بشاشة هاتفها المحمول.

 وحّد الله يا أستاذ، صوت السائق أخرج “أبو خليل” من عالمه، فأفاق، تحسس خديه، مسح دموعه التي بلّلت سترته، قميصه، حقيبة أوراقه، نظر جواره، خلفه، اعتذر للجميع، فسمع مصمصات شفاه، أخترقت عظامه نظرات أسى ومواساة وإشفاق من كل ناحية.

لم يجد إلاّ أن يهبط قبل محطته بمسافة كبيرة، قضاها ماشيًا تحت وهج الشمس الحارقة، يتذكر تفاصيل زيارته للطبيب، بعد أن أحس بنتوء بصدره من جهة اليسار، أقرب لندبة متحجّرة، ظهرت فجأة، تجاهلها فترة، حتى لفتت زوجته نظره وأخبرته بجدّ ارتسم على وجهها الملائكي: ينبغي أن تزور طبيبًا، أشارت عليه بواحد سمعت به، ماهر بعمله، حاذق في مطاردة المرض حتى ييأس الداء ويفرّ من بين يديه، فذهب إليه يحدوه أمل أن يكون الأمر تافهًا، خاصة أنه يدرك أن الطب تجارة رائجة الآن، التردد على العيادات مضيعة للوقت والمال، إلاّ أنه شعر بهاجس خفيّ أصابه بعد حديث زوجته.

يكره “أبو خليل” الحر جدًا، كما يمقت دفع “فيزيتا” الأطباء، لذا تردد كثيرًا في الدخول، الخروج من باب العيادة، حتى عزم أمره بعد مكالمة من قرينته تحذّره من مغبّة العودة دون رأي طبيّ فيما ظهر بصدره، فقرأ الفاتحة، وتلا في سرّه بعض آيات الذكر الحكيم، ودعا بما شاء ثم.. 

حينما مثُل بين يديّ الطبيب، الذي كان يعبث بأزرار آلة حاسبة، يُقسم، يضرب، يطرح، علا صوته عبر مكبّر صوت هاتف ملقى على مكتبه، يتكلم لآخر بعيد، تبيّن أنه مقاول، جادله في تكاليف الحديد، أسعار الأسمنت ثم.. أدار وجهه للمريض القابع أمامه وقال وهو ينظر دون اهتمام لاستمارة بيانات وضعتها سكرتيرته: أستاذ.. أبو خليل، مممم مما تشكو؟! 

فقال: أنا.. وصمت.

فسأله بانزعاج: لماذا سَكَتّ؟ أَكمل، أنا أسمعك، لا تشغل بالك بما أفعل!

فسرد على مسامعه ما طرأ بجسمه من نتوء أزعج زوجته فقط، وخلع قميصه، قبيل أن ينزع “الفانلة” الداخلية، نهره الطبيب: مش مهم، فعلًا هذه مشكلة كبيرة، سأحجزك الآن، وغدا تدخل غرفة العمليات، لسوف نستقطع جزءا صغيرا من هذا الورم، نرسله للتحليل بأكبر معامل العاصمة، لا تقلق.ثم عاد لأزرار آلته الحاسبة..

– ورم؟ يانهار مش فايت!!

-طبعًا، انت فاكر ايه؟ مشكلة كبيرة. أقرب لمصيبة لكن لا تقلق، لها حل المهم غدًا العملية.. فقط انتظر في الخارج، لاتجزع هكذا، فلك عمر لن تتجاوزه بثانية واحدة. ثم ألقى بوجهه ورقة تحوي عشرات التحاليل الطبية الواجبة، أشار بسبّابته أنه لن يقبل أي تقرير إلاّ من معمل تحاليل بعينه، ثم ارتخت قسمات وجهه ثانية وارتدى قناع الحكمة وقال: أثق في الفنيين به، والتقارير الصادرة عنه؛ فحياة المريض غالية نحرص عليها ونعضّ عليها بالنواجذ، قال ذلك بكلمات سريعة كأنها ” أكلاشيه ” مطبوع، ثم نظر بعميق يتفحص أثر حكمته عليّ!

عندما خرج “أبو خليل”، انسدلت على عينيه ستارة سوداء سميكة، تاهت معالم العيادة، العمارة التي تستقر بها، شارع “المحمدّية” والأزقة المتفرّعة عنه، وجد نفسه يسير على غير هدى، تسبقة عبرات بدأت تتساقط أمام عينيه. يسمع عويل أرملة، بكاء ثلاثة اطفال أيتام حول أمهم، يلتفون جميعًا حول شاهد قبر يستقر هو تحته مرغمًا، تلك المرة سمع صوت فرملة شديدة، سباب سائق مراهق، سيارة أجرة تقف على مبعدة سينتمترات قليلة من جسمه، التقت نظرات الرجلين، سأله: رايح فين يا أسطى؟ فأجابه السائق بصلف: في داهية.

فردّ عليه “أبو خليل”: خذني معك، فأنا على العموم في طريقي إليها، ثم صعد بتثاقل للعربة، استقر في الكرسي الأوسط يجاور النافذة، عن يمينه شابة تمضع علكة ببطء وصبر غريبين، تنظر في حقيبتها طول الوقت كأنما تبحث عن شيء فقدته أو تستهلك الوقت حتى تصل لغايتها ثم..

تزايدت العبرات حتى أصبحت شلّالًا مصحوبًا بنحيب مكتوم، أهاج كل من في السيارة. حينما عاد لبيته مساء ذلك اليوم، كانت زوجته تنتظره على أول الشارع، زائغة العينين، يرتجف قلبها بشدة خشية أن تتحقق واحدة من مخاوفها التي تنتابها ليل نهار، تروح وتجئ، يلهج لسانها بدعاء غامض، تفرك أصابع يديها ببعضها البعض. 

 سيدة تخاف على زوجها، كانت تمارس طقوس التوتر بلإخلاص شديد، لمّا رآته من بعيد، انفرجت أساريرها، ثم قطبت جبينها، إذ رأت شيخًا كبر ثلاثين عامًا في ساعات، أسرعت إليه سألته بخوف: مالك؟ خير؟ هل ذهبت إلى.. قبل أن تُكمل سؤالها، أجابها بكل شيء، وهو بين يديها يبكي كطفل مات أبوه بين يديه.

– حمار.. 

– من؟ 

– الدكتور.. ثم أمسكته من يده، تساند على كتفها، جرجر قدميه، حينما استلقي على كنبة “الأنتريه”، أسرعت باحضار كوب ماء، تجرّعه مرة واحدة من شدة عطشه، هدّأت من روعه وقالت: دعك من هذا الكلام الفارغ، سأعالجك بوصفة جدتي، تلك التي لا تخيب أبدًا.

– سألها: وما هي وصفة جدتك؟ لم أسمع بها من قبل!

فأجابت وقد اكتسى وجهه بغموض شديد: لا تسألوا عن أشياء..

فلزم الصمت، انزوى على نفسه، يجتر أحزانه الخفيّة منها والظاهرة، وشريكته بغرفتها تحضّر الوصفة، من بعيد صاحت به: اخلع قميصك و.. بسرعة.. ففعل، ثم أقبلت بيدها عجينة سوداء، وضعتها على مكان النتوء، عندها غافله النوم دون سابق انذار، فأغشي عليه، أفاق صبيحة اليوم التالي وقد تلاشى المرض، ومعه اختفى القميص وما دونه.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s