رجل من لحم ودم

رجل من لحم ودم

فردوس عبد الرحمن

اللوحة: الفنان الإنجليزي هنري فوسيلي

اقرأ كتابك فبصرك اليوم حديد

كان ثمة ألم كبير في عينيك وأنت تخطُّ روايتك الثانية وتحكي عن الشبق والموت

 وكان ثمة فقدان وضعه أبقياك هادئًا حين قابلتك وتشبثت بيدي وقلت: تنقذينني؟

كان قلبي واجمًا، أنت قدست اللحم والدم منذ البداية وأنا أطفح بسماوات كثيرة فمن منا ينقذ الآخر؟ ها هو جسدي جرح كبير بين يديك فمن منا المخلص؟ ومع ذلك هاتفتني بعد يومين وصرخت في أذني: أنقذيني

..ياقاهرة، يا متربة وسوداء انهضي، الرجل الذي من لحم ودم يريد أن أنقذه، أنا التي تشردت كثيرًا قبل أن آتي إليكِ، إليه، ويريد أن أنقذه

..ماذا رأيتَ فيَّ وقتها؟ أنا عظامي منهكة يا أبي ولا أقدر على حمل نملة، نعم .. كنت أسميك أبي حين تربِّت على ذراعي بباطن كفك، كان لديّ رغبة في أن أزيح كل صور الحب التي عرفتها وأعود إلى الأصل، إلى أليكترا فرويد، إلى العشق الأبوي ولكن ماذا عنك أنت، كيف رأيتني ولماذا طلبت مني أن أنقذك؟

_ أنت طيبة وقديسة.. قلتَ لي

_ أرجوك كف عن هذا..لست قديسة ولا طيبة، أنا لحم مشقوق

كان ذهني قد فقد قدرته على التصور فلم أرك عملاقًا بجناحين أبيضين كما صور الحب المعتادة ، بل رأيتك حقيقة ، لم تكن ذكرتَ لي ذلك الحلم عن كونك محبوسًا أسفل مركب كبير في البحر ومع ذلك رأيتك مقرفصًا في الأسفل، وحيدًا في الظلام وهذا بالتحديد ما جعلك تصرخ بي “النجدة”

كنتُ قد تعلمتُ وقتها أنه إن رآك أحد من الداخل سوف تصرخ به “النجدة” وهذا بالضبط ما قصدته معك

أفلحت مع كل ضعفي في أن تستغيث بي حيث إنك طوال عمرك حبيس اللحم والدم في قاع سفينة ولن تعرف حيلتي تلك التي اكتسبتها أثناء تدربي في ورشة السايكو دراما، أن أرى الدواخل البشرية وبذلك أبدو كساحرة تقرأ الغيب 

أنهكت نفسك كثيرًا في ألاَّ يراك أحد من الداخل، كنت تخجل من ذلك الأسير القابع أسفل المركب ومن هنا خبَّأته عن الجميع ونجحت، وهكذا لم تقع في الحب أبدًا وبرغم تعدد علاقاتك النسائية إلاَّ أنك اكتفيت بانجذابات الجسد أما روحك فقد كانت تقعى في مكان آخر. تقريبًا أسفل المركب، بجوار ذلك الأسير .

منذ امتلكت تلك الحيلة وأنا أرى دواخل معظم من أقابلهم من البشر. لكنني كنت أهرب منهم جميعًا إلى أن وصلت إليك. فما الذي أغراني لأرقد بجوارك وأتشبث بركبتيك؟ .. هذا ما أبحث عنه الآن

كان (صاحب الشروط) قد نفضني، وتركني (المعلم الروحي) أسير وحدي وفهمت أن العمالقة لا تصنع شيئًا لأمثالي لذلك حدقت فيك كي لا أراك عملاقًا فتتركني وحدي.

الإله لايصنع شيئًا لعبده الصغير، عبد صغير مثله هو من يستطيع أن يمسك بيده ويبدد وحدته.

لقد بددني أبي طوال حياتي بالقناعات وضدها، حتى بعد أن صعد إلى السماء ظللت أبحث عنه وأتبدد إلى أن رأيتك قاعيًا أسفل المركب، فعرفت أنك هو. هكذا أبي دائما، يفعل الأشياء وضدها

أفهمني ( المعلم الروحي) أن الذي فككني منذ البداية، الأشياء وضدها

لحمي مشقوق يا أبي، فهل ترقُّ يداك وتمسك بجرحي؟

أشعر أن دمك سيجري في عروقي إن ضمدتني، ونسغًا سيسري في روحي فتعود قواي

لكنك أطرقت مفكرًا وطال بك الوقت برغم أنك رأيتني طفلة تائهة من أبويها، نعم رأيتني فأخذتني من يدي ندوس شوارع وسط البلد إلى أن وقفنا في ميدان التحرير وقت الثورة جنبًا إلى جنب ، لم تكن تغفل عني أبدًا وكنت إذا طوَّفت مع الناس بعيدًا عنك تفزع عليَّ وتهرع تبحث عني وسط الحشود وأشعر بك من الخلف تسقط بكفيك على كتفي، كنت تراني دون عينين، أقسم أنك كنت تراني ليس بعينيك ومع هذا كنت بطيئًا معي، طلبت منك بيتًا يجمعنا وفي قصيدة لي هتفت:

افعل شيئاً أرجوك

      أعرف أنك حين تنزلق خطواتك في روحي

      لن تمشي بي إلى البيت

     أعرف أن المسافات تموت مثل قدميّ

     والبيوت بعيدة جداً الآن

     ونسيان أبيض يتمشىَّ في رأسي

     وأنت كما أنت

     لاتريد أن ترجع بي إلى البيت

ومع أنك سمعت صراخي وشعرت بقدمي المتعبة لكنك ظللت تفكر .

عبرتنا ثورة 25 يناير وأنت ما زلت تفك، إحتلَّنا الإخوان وأنت تفكر

الوقت يمضي يا أبي، أريد أن أحرر البلاد، أريد أن أعثر على الله، أريد أن أرتب البيت وأصنع فطائر وأشتري لبنًا لابنتي

اللحم يعتم إن لم يرك أحد، وأنا رأيتك، أنت جرَّبت هذا بنفسك حين طوَّقتني أثناء الثورة، حين ابتعدتَ عن جميع من لا يرون وظللتَ تجري في الشوارع ممسكاً بيدي

لديك تجربة من لحم ودم ولن أتكلم بعد الآن، لن أتكلم، حتى شبيهتي (صاحبة الشعلة) لن أقول لها سوى أننا صديقين طيبين ولن أفكر بعد الآن في بيت يجمعنا وسوف أبحث عن طريقة أخرى ليتخلص الوجود من عدميته

كنت سأكتفي بصاحبة الشعلة، لكنك سرعان ما همست لي: إن لم تريني لن يراني أحد

أرعبك أنني سوف أمضي معها بعيدًا، باحثة مرةً أخرى عن موطني السماوي الأول ولأنك أرضي أدركت أن لحمي سوف يظل مفتوحًا وأن السماء لن تفعل لي شيئًا وأن اللحم يحتاج إلى لحم مثله وإلى بيت يجمعه

ياااااه أكنت أنت الآخر تحتاج إلى وقت كي تصل!!.. حتى الذي من لحم ودم يحتاج وقتًا كي يصل.

حين نصل إلى اللحم والدم أو يصل هو إلينا تصير السماء أقرب إلى الأرض وتنغرس الروح في الجسد، ويصير الموت حميميًا مع الحياة فيسكن الرعب ونقف على قشرة الأرض كحكماء مطمئنين

يا رجلًا  لم أعرف الطمأنينة قبله ولم يرتعد هكذا قبلي، رعدة انتفضت لها روحه وقفزت معي إلى قشرة الأرض، إلى السطح المكشوف للحياة.

السرطان

فكرت بعقلي الداخلي أن أرحل بعد أن أنجزت ديوانين من الشعر وهذا الكتاب الذي بين يدي وابنة عروس علي وشك الزواج من حبيبها.

والحقيقة ما من شئ يشبه الله سوى هذا العقل الداخلي، لقد أصابني بما يسمى السرطان، ووقف أمامي في تحدٍ معتاد يقول لي: هل أنت صادقة فيما تكتبين، هل الموت بهذه الطرافة التي تتحدثين بها عنه؟

الغريب أنني قبل قليل من معرفتي بإصابتي بالمرض حلمت أن الرجل الذي من لحم ودم يقطع أوردتي وأصرخ فيه: سوف أموت، ألا تدري أنني أموت؟ وإلى الآن لا أعرف سر هذا الحلم إلاَّ أن جزءً من عقلي يرجح أن الرجل الذي من لحم ودم هو العقل الداخلي، هو نافخ الكير ومطقطق الشرر، إنه مثل البرق ومثل النار والضوء، إنها محاولة بعث جديدة للجثة القديمة بداخلي، فعندما يقترب الموت من الحياة تتشعث خلايا الروح، ترتجف وتمسك بالجامد في الجسد، كان يود أن أمسك بجسدي،- نعم- تلك فلسفته دائمًا.

ألا يعلم الذي من لحم ودم أن الجثة إلى وقت قريب كانت موجودة ؟ خرجت من جوفي مرة وتحدثت أمامه فسرت قشعريرة في ظهره وارتجف. كان هذا حين قمنا سويًا برحلة على البحر في مدينتي الصغيرة وهناك فاجأتني الذكرى، ذكرى الموت القديم فأخذت أبكي وأبكي فهرع إليَّ الذي من لحم ودم ومسح وجهي المبتل وربت على رأسي كي لا تخرج الجثة أمام الواقفين وتحكي

البحر هو عقل الحياة الداخلي، إن لم يضطرب تسكن أمواجه إلى الأبد وتطفو الحوريات والأسماك ميتة على وجهه.

كان الذي من لحم ودم تقريبًا يعرف هذا، فقصد أن يأخذني إلى هناك كي أتذكر، كان يعرف أن النسيان موت، وحتى نسيان الموت هو موت. لم أرتعد حينما عرفت أنني مصابة بالسرطان لكنني أشفقت، وقعت في خطيئة الشفقة على ذات كدحت طويلًا حتى تصل إلى الحياة، ولكن لماذا، لماذا في هذه اللحظة بالتحديد بعد أن وصلت لأول مرة إلى التحكم في حياتي وأنجزت ما أنجزت خلال عامين هما عمر سعادتي ،عمر اقتراني بالذي من لحم ودم ؟

السرطان هو جنون الخلية، لماذا يا معلمي الروحي، لماذا؟

_ ما الجنون؟ إنه خروج الظل ليبتلع صاحبه

_ من هو ظلي؟

_ إنه قرارك القديم بالموت، جثتك القديمة

_ ولماذا تخرج لي الآن بعد أن أمسكت بالحياة؟

_ لتدافع عن وجودها

_ ضد من؟

_ ضد الذي من لحم ودم، من كاد يلغي وجودها

_ وهل لهذا علاقة برؤيتي له في الحلم يقطع أوردتي؟

_ لم يكن يحاول قتلك أنت بل ظلك

كانت هذه هي محاولة المعلم الروحي للإجابة عن سؤالي، لكن إجابته لم تشفني، وأعتقد أنه عليَّ أن أغوص داخل عقلي وأنصت لأعماقي كي أسمع همهمة أخرى، طنينًا آخر يتحولان مع الزمن إلى صوت مفهوم، إلى إجابة شافية.

السر

عميقًا عميقًا تحت البحر، أبحث عن السر، تحت المياه الراكدة على سطح الوعي أبحث عن الحياة، فليغفر لي ذلك الرجل الذي (من لحم ودم)، لقد عرفت سره أيضًا، إنني هذا الإنسان الكادح إلى السرّ.

تقول شبيهتي، (صاحبة الشعلة) والتي تلهمني بكثير من الأسرار دون قصد منها، تقول: أنت جنِّية وعلى من يقترب منك الاحتراس.

هل يزعجك يا رجلًا (من لحم ودم) رؤية الداخل لديك؟ هذا الأسير المصعوق، الموثوق بحبال أسفل المركب كما حلمتَ يوماً، هذا الأسير الذي أنحني دائمًا لأفك قيوده بقسوة لا يحتملها، وهذا السيد الصانع للفرح في جلدي وفي خلايا الروح؟

إنك القدر الذي مزج الحسي بالمعنوي، علمني ضوء المادة، وأن الروح ليست سرًا خبيئًا كما يقولون، بل هي طافحة بالجسد، إنها إنتشاء الجسد

..هذا الأرضي الحسي، يخبرني بأنها هربت مني وأخضعتني للموت حين هربتُ من جسدي وانفصلت عنه، إنه يعرف سرّ السرّ.

معه تنغرس الروح في الجسد بألم ممتع، باتحاد كوني، اتحاد يذيب الجسدين معًا، يطحنهما ويذروهما في فضاء الغرفة فلا ندري أي اليدين تكون لي أو له، أي الأعماق تردد صدى كلمات لم نقلها وتركناها تتأرجح بين رأسينا

ما هذا الهول الذي يحضرنا حين نتلاصق فيتشرّد الزمن في ضلوعنا وأعود ذلك الجنين الأول للأم وتلك المراهقة الدلوعة لأب ينسى حبه القديم لأمي ويتخذني حوريته الوحيدة  

لا أحكي أبدًا لصديقاتي عن هذا الشعور كي لا تتسرب نقطة منه إلى الخارج. هو لي، هو له وفقط.

.. أتأمله بإعجاب، وجهه الشبيه بوجه أبي، لمساته المطابقة للمسات أمي، كلماته المتحررة من الوهم ومن السماء

.. إيه.. أيها الزمان العجوز كم أخرتنا!! هل كان عليّ أن أزحف من الجحيم بنَفَس مُمِيت وببطن مُسلَّخة كي أصل إلى هنا، إلى الذي من لحم ودم؟

تلك الروح التي جاست في الظلام كي تمسك بفكرتها، بقدرتها الشبقية على العيش في قلب العالم والاندياح في غروبه وشروقه والتمرمغ بلا شفقة على ترابه

..آه أيتها الروح العالية!! كم كان الطريق طويلًا إلى أن أتيت بك من كهفك السماوي إلى بلاد الناس ولطختك بشعر ودم كي تصيري مثل الناس.

عندما يأتي أحفادي سأقول لهم: كونوا مثل الناس كي لا تأتوا متأخرين كما أتيت، كونوا فخورين وواثقين بالتراب لأنه الممشى الوحيد لأقدامكم، قدِّسوا اللحم والدم والخسارةوالندم لأن بهم جميعاً تفرحون،

افشلوا وافشلوا وافشلوا، عاينوا الضعف والغضب والكآبة كي لا تموتوا في الداخل، كي لا يزحف إلى رؤوسكم الخدر العميق، زوجي الذي من لحم ودم، جدكم الأكبر يقول لكم: افركوا الطين بين أصابعكم كي تشعروا بالشبق، حيّوا جميع الأشياء وودعوها لأن الحياة طازجة باستمرار وأبدية، أطلقوا صرخة الحرية وسيروا، سوف تفهمون المهمة المقدسة للروائح النتنة ولأكوام الروث التي تتعثر بها أقدامكم.

أفهمك يا رجلاً من لحم ودم

من الضعف والقوة نكون، من الذل والكبرياء، من المنتن والعطر، الموت والحياة

لذلك.. تقبلت موتي وضعفي ونقصاني وما عدت أهرب منهم، وما عدت نبية، يارجلًا ليس إلهًا.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s