هناء غمراوي
الصورة: تمثال «مناشدة الروح العظيمة» للنحات الأميركي سايروس دالين في مدينة بوسطن
رحلة نهاية الأسبوع، الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الثاني للجائحة كانت مختلفة، ومميزة لم تكن هذه الرحلة تشبه أي من سابقاتها… لم نخطط لها كالعادة! كانت مجرد فكرة ومضت في خاطري فتشاركتها مع ابنتي التي أحس أن الله كافأني في وجودها في حياتي. يكفي أن المح أو أشير الى أي موضوع، فكرة، اقتراح… حتى تبدأ بالتخطيط له بهدوء وصمت.
الفكرة كانت زيارة ولاية ماساتشوتس، ومدينة بوسطن بالذات. هذه المدينة العريقة التي كانت وجهة العديد من المهاجرين الأوروبيين، بداية فتح القارة الجديدة، فكانت من أوائل المدن التي استقروا فيها ونقلوا اليها حضارة القارة العجوز وطابعها العمراني والحياتي..
وكون مدينة بوسطن كانت المرفأ الأهم على ساحل الأطلسي الشمالي الشرقي، فقد تتالت اليها الهجرات، من كافة بلدان العالم منذ ما قبل القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ وذلك قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى بسنوات. حيث كانت الملاحة البحرية، هي الوسيلة الوحيدة المتوفرة للانتقال الى العالم الجديد. وعبرها وصل جبران خليل جبران وهو ما يزال صبياً لم يتجاوز الثانية عشر من عمره؛ على متن باخرة أقلته من ميناء بيروت مع أمه وأخيه الأكبر بطرس وأخته سلطانة، التي خطفها الموت بعد فترة قصيرة من اقامتهم في بوسطن. وذلك قبل أن ينتقل الى مدينة نيويورك لتبدأ من هناك حياته الأدبية الحافلة
ليس غريباً أن أزور ماساشوتس في هذه الفترة بالذات، وأعني طبعاً في فصل الخريف. هذا الفصل الذي تتزين به الطبيعة هناك بأبهى الألوان، وأجملها..
الواقع كان هناك اكثر من سبب يحفزني لزيارة تلك الولاية غير الطبيعة والعراقة التي تتميز بهما.
سببان كان دافعهما انسانياً بحتاً؛ الأول، أن اتعرف الى تلك المدينة التي غادرت اليها ابنتي ندوة وهي ماتزال شابة يافعة قبل أن تستقر في مدينة نيويورك لعشر سنوات خلت.
والسبب الثاني هو زيارة ابنة أخي المقيمة هناك منذ أكثر من خمسة عشر عاماً والتعرف اليها.
ابنة أخي الأميركية الأم والمولد، والتي حملت اسم جدتها سميحة، اسم أمي الذي يعني لي كثيرا.. ولم تسمح لي الظروف بالتعرف اليها حتى الاّن. بالرغم من زياراتي المتكررة إلى أميركا.
يوم السبت قبل الظهر غادرنا نيويورك باتجاه ماساشوتس التي تبعد مسافة حوالي أربع ساعات بالسيارة طبعا بالسرعة المسوح بها.
لا شك ان الطريق طويل، ولكن ذلك لن يدخل الملل الى نفوسنا أبداً. نحن في فصل الخريف، وهو ملك الفصول بلا منازع هنا. تتزين الطبيعة خلاله بأجمل حلة من الألوان، فتبدو مناظر الغابات التي تحيط بالطريق من الجانبين لوحاتٍ متحركة، ابدعتها يد الخالق بكل جمال وإتقان!
ألوان أوراق الأشجار تتماوج بين الأخضر الزاهي المقاوم لكل تقلبات المناخ القاسي، الى الأصفر الخجول الذي تتدرج ألوانه حتى تبلغ ذروة الاشتعال. وثمة شجرات باسقة تناغش الخريف بخفر. بحيث أن بعض أوراقٍها تتمسك بخضرتها، مقاومة اغراءاته القوية بالهجرة والتلون. وبعضها الاّخر تنصاع له صاغرة، طائعة في انتظار رحلتها الى المجهول.. فلا عجب ان استوقفنا ذلك المهرجان من الألوان المبهجة، الذي يتدرج من الأخضر الى الأصفر الباهت الى البرتقالي قبل ان تشتعل بلون ناري ورقات الأغصان العليا التي تتصدى للشمس بزهو وخيلاء. كل هذا الجمال يطل من شجرة واحدة فقط. وكأني بها تجاري ابن الرومي في وصفه للطبيعة وهي تتهيأ لاستقبال الربيع في حدائق بغداد الغناء، بعد انقضاء فصل الشتاء حيث يقول:
تبرجت بعد حياء وخفر
تبرج الأنثى تصدت للذكر
الفارق هنا ان الطبيعة تبدو في كامل زينتها ولكن في فصل الخريف. وليس الربيع! وهنا يظهر أهمية الدور الذي تلعبه البيئة في اكتساب البشر للمفاهيم والأعراف التي يطبقونها في حياتهم وسلوكياتهم.
كانت أول ولاية مررنا بها في طريقنا الى ماساشوتس هي: “كونيتكت” وهذه بالطبع تشكل جزءً من الولايات الشمالية المسماة؛ “نيوإنغلند” والتي كانت النواة الاساسية لقيام دولة الولايات المتحدة الاميركية اليوم. لذلك نرى أن معظم هذه الولايات تحتفظ بطابع أوروبيّ خاص يميزها عن باقي ولايات الجنوب..
كونيتكت جميلة بطبيعتها ومبانيها، وتغري أي زائر بالتوقف داخلها. لذلك وضعنا في برنامج الرحلة ان تكون زيارتنا لها في طريق العودة. تابعنا طريقنا الى ماساشوتس وكانت وجهتنا منطقة داخل الغابات، تسمى “أوكهام” حيث يتواجد هناك بعض الأصدقاء الذين استطعنا من خلالهم تأمين اقامتنا اثناء تلك الرحلة في منزل ريفي جميل. مؤلف من طبقتين، تحيط به الغابة من جهات ثلاث ويجري بين اشجارها نهر صغير، كان يتدفق ببطء، وتطفو على سطحه بعض أوراق الأشجار المتناثرة، التي تغادر عبره في رحلتها المعتادة من كل عام. المساحة المشجرة المحيطة بالمنزل كبيرة لذلك كان من الضروري اقامة جسر خشبي فوق النهر ليتمكنوا من الانتقال الى القسم الثاني من الغابة .
اول ما لفتني بعد دخولنا الى البيت، ومن خلال إحدى النوافذ المطلة على الغابة كان ذلك الجسر الخشبيّ الجميل، الذي أعترف للأمانة أنني لم أر له مثيلا سوى في بعض الافلام التي شاهدتها. لذلك كان اول ما وضعته في برنامجي الصباحي وقبل التوجه الى مدينة بوسطن، لتمضية نهار الأحد هناك؛ هو النزول الى النهر، واجتياز ذلك الجسر الخشبي للوصول الى القسم الاّخر من الغابة، وأخذ بعض الصور التذكارية هناك . حقيقة أخرى عرفتها بعد قدومي إلى هذا البلد وهي ان الغابة ليس بالضرورة أن تكون ملكية عامة تخص الدولة. أو محمية خاصة ترعاها بعض المنظمات البيئية. بل بإمكانها ان تكون ملكية خاصة تشترى وتباع شأن أي عقار. إذ يعيش الناس هنا داخلها بكل يسر. فيبنون البيوت لسكنهم الدائم، أو بهدف استثمارها في الإيجار لمن يرغبون القيام برحلات استجمام في المرتفعات، وداخل الغابات. كما تشجع الحكومات والادارات المحلية على السكن داخل الغابات. وذلك عبر تأمين الخدمات والتسهيلات المتنوعة من كهرباء وشبكات مياه وبريد وانترنت. وهذا ما يدفع بالكثير من السكان إلى الهجرة من المدينة والإقامة داخل هذه الغابات بحثا عن السكينة، وبعيداً عن المدينة وضوضائها.
اوكهام، تبعد مسافة ساعة ونصف عن مدينة بوسطن؛ لذلك كان علينا ان نتحرك صباح الأحد، بعد تناول الفطور مباشرة باتجاه المدينة للقاء سميحة (سام) ومن ثم التجول في ارجاء بوسطن والتعرف الى أهم معالمها التاريخية والسياحية. ولو كان الخيار لي لا مضيت ذلك النهار بطوله استمتع بخرير مياه النهر والمشي بين الاشجار الزاهية بالوان الخريف، ولأجلت الذهاب الى بوسطن ليوم الغد. لا اذيع سراً اذا قلت أن جمال الطبيعة هنا في هذا الفصل يفوق بدرجات جمال خريف نيويورك. وهذا مردّه انه كلما اتجهنا شمالا باتجاه المناطق القطبية، تدنت درجات الحرارة، وزادت الفروقات الحرارية بين صقيع الليل وسطوع الشمس في النهار؛ مما يزيد من اشتعال الغابات وتلون اوراقها…
قرابة الثانية عشرة ظهراً وصلنا وكان علينا في هذه الساعات القليلة انجاز لقائنا العائليّ، والقيام بجولة سريعة في المدينة. ومن ثم العودة الى اوكهام قبل حلول الليل. وهذا فرض علينا تعديلاً في البرنامج التقليديّ؛ فلا زيارة للمتاحف ولا لحديقة الحيوان. اما زيارة وسط المدينة، ومشاهدة ابنيتها التراثية وساعتها الشهيرة فأمر لا بد منه. وكذلك زيارة المرفأ البحريّ الذي يعد من أقدم الموانئ على شاطئ الاطلسي، شمالا. هذا المرفأ الذي رست فيه باخرة قادمة من بيروت وعلى متنها صاحب كتاب “النبي” منذ ما يزيد عن المائة عام ونيّف…
ختمنا زيارتنا قرابة الساعة الرابعة والنصف بان توجهنا الى أحد المطاعم الإيطالية (ماما- ماريا) الذي رشحته لنا سارّة التي رافقتنا في جولتنا؛ وهي صديقة قديمة لندوة من أيام الدراسة في ماساشوستس…
غادرنا بوسطن بعد مغيب الشمس بقليل واتفقنا ان نريح ذهننا من التخطيط لنهار الغد. حتى تبقى صورما شاهدناه وما عشناه في هذا اليوم حيّة وراسخة في خيالنا.
ما اسرع الوقت حين يعبر ونحن نتوخى الاستفادة من كل دقيقة وكل ثانية فيه… صباح الإثنين اّخر أيام الرحلة ويوم العودة الى نيويورك كان ماطرا، ودافئا بعكس اليوم الذي سبقه. هذا ما حال دون الخروج من البيت، وجعلني ألقي تحية الوداع على الغابة المجاورة ونهرها الجميل عبر النافذة المطلة فقط. في الوقت الذي كانت ندوة ترسم فيه برنامج العودة بالاستعانة ب غوغل طبعاً؛ لمعرفة اهم الاماكن التي يمكننا زيارتها في كونيتكت.
كان أمامنا خياران؛ اما زيارة منزل، ومتحف مارك توين في هانفورد، والذي يعتبر إحدى التحف المعمارية المبنية على الطراز القوطي. او الذهاب الى قلعة ويليام جيلت المبنية بالحجر الأسود والمطلة على نهر كونيتكت الساحر الجمال. ونظرا لضيق الوقت اخترنا الذهاب الى القلعة …
في طريقنا الذي كان يرسمه لنا الدليل الالكتروني اجتزنا مسافة حوالي الساعة بالسيارة داخل غابة كبيرة جداً ولكنها كانت مأهولة ببعض البيوت المتناثرة بين الأشجار. والمتواجدة في المساحة الأقرب للطريق العام، التي كنا نعبرها للوصول الى القلعة. عند وصولنا، أول ما وقعت عليه أعيننا كان الحديقة الكبيرة المحيطة بالقلعة، والتي تعتبر من أهم حدائق كونيتكت واكترها جمالاً واتساعاً. لدرجة أن الجمال الطبيعي المحيط بالقلعة سيشغل الزائرين عن الإسراع في الدخول؛ وهو ما حصل. إذ أننا قضينا أكثر وقتنا في التنزه حول القلعة، التي لم نتمكن من الدخول اليها لسبب اّخر وهو أنه يتم اقفالها في هذه الفترة من السنة. فاكتفينا بالجلوس في الساحة الخلفية للقلعة المطلة من احدى جهاتها على النهر. ومن الجهة الأخرى على جانب مفتوح من الحديقة يسمح برؤية مساحات ممتدة من الخضرة والجبال …
حان وقت العودة الى نيويورك. ولم يخل طريق عودتنا من مفاجأة.! عرفناها مباشرة بعد تشغيل الدليل الالكتروني …
كان علينا ان نعبر نهر كونيتكت من الضفة التي كنا عليها، حيث قلعة ويليام جيليت الى الضفة المقابلة لنستأنف رحلتنا إلى نيويورك.
ولعدم وجود اي جسر هناك، كان علينا أن نعبر مع سيارتنا عل ظهر سفينة عبارة مخصصة لهذه الغاية. لم تستغرق تلك المهمة سوى دقائق كنا خلالها على الضفة الثانية من النهر.
كان النهار يميل الى الوداع وكان يلزمنا بحدود ثلاث ساعات لنكون في نيويورك. توقفنا امام مطعم بسيط قريب من النهر وكان عشاء وداعيا لولاية كونيكت وقلعتها، ونهرها الساحر؛ احتوى بالإضافة الى السلطة اليونانية، على اصابع الدجاج المقلية، مع حلقات الكاليماري والهالوبينيو والبطاطا المقلية، وبعض قطع البيتزا؛ التي أصرّ صاحب المطعم أن تكون ضيافة عندما عرف أننا قادمون من نيويورك… غادرنا كونيتكت مع بداية ارتحال خيوط النور الأخيرة. عندما غادرنا الغابة وسلكنا الطريق الرئيسية باتجاه نيويورك كان الظلام قد خيم تماماً.
في حدود الثامنة وصلنا إلى نيويورك. قبل دقائق فقط من حصول العاصفة القوية، التي ضربت ولاية كاليفورنيا. وانحصر تأثيرها في نيويورك بهطول أمطار غزيرة استمرت طوال الليل.