الأنا المبدعة.. وأجراسي الصغيرة

الأنا المبدعة.. وأجراسي الصغيرة

محمد عطية محمود

  في مرحلة باكرة.. طوَّعت لي ذاتي الاندفاع نحو اقتراف كتابة الشعر، الذي هو أقرب إلى الخواطر/ السهل الممتنع على أغلب من هم في سني المراهقة.. صرت أكتب، وأخفي ما أكتبه، في ذات الوقت الذي لا أدرى فيه لماذا أكتب، ولا أدرى سببا لإخفائي ما أكتب. هل كان خوفا من أن يطلع أحد على دخيلتي، أو ظنا منــى أنـه لا يرقى إلى مجرد الاطلاع عليه، أم ظل في نفسي سرا مـــن أسراري الكونية الذي تبرز فيه الأنا التي كانت محور كل ما أكتبه وأخشى افتضاحه؛ فقد صارت ردة فعلي على أي موقف تنسكب من وعيي أو لا وعيي على الورق إما إلى خواطر شبه منظومة، وإما إلى تعبير حر أبحر فيه في خضم بحر، لا أدرى أنه بحر النثر الغالب على أي تحليل لما يواجه ذاتي من أرق أو متاعب أو مشاعر حب أو مقت، أو شتى مواقفي وحروبي المعلنة وغير المعلنة.. 

هو بحر النثر أو الفضفضة التي جرتني يوما إلى التخلي عن كتابة ما كنت أظنه شعرا، ارتحالا إلى كتابة أول مشروع لكتابة قصة بمفهومها التقليدي الكلاسيكي، بعد أن سبقتها مع خطواتي الوليدة، خواطري الشاعرة إلى قصر ثقافة الحرية (المنارة البائدة في بحر الثقافة الإسكندرية، ونبتات الفن بأنواعه)؛ فتلقفتني وجوه الشعراء، وكلماتهم المشحونة بالانفعال والشجن والتوتر والمعارك، مع ألوان أشعارهم التي رسخت في نفسي اليقين بأن ما أكتبه لا يرقى إلى فن الشعر الذي تحكمه القواعد البحور والأوزان والقوافي، إلى جانب التجربة الشعرية والحياتية، رغم استحسان البعض لما حملته بين يدي مرتعشا بحمى الإبداع الناشئ.. شاديا بخواطري كشدو الشعراء.. وعلى الرغم من تنبؤ البعض بأن هناك حسا شاعرا يقف خلف هذا النظم الوليد..

وما هي إلا عدة جلسات حتى قذفتني أمواج الشعر إلى شاطئ آخر من شواطئ الكتابة النثرية التي أهملتها بمجرد كتابتي لهذه المحاولات التي خلتها ساذجة، التي عرفتني أيضا على أحد النقاد الذين كان له نشاط جيد في الحركة الإبداعية آنذاك. كانت تلك المحاولة المذكورة، لا تمت إلى ذاتي بأي شكل من الأشكال.. لا أدرى كيف انسحب قلمي إليها، وتغير مداده؛ لينشغل في شيء آخر هو مزيج من ميلودراما ساذجة مع أفكار تنطلق من هواجس الذات دون أن تشبهها. ولا أدرى كيف تكونت هذه الإشكالية المتخبطة ليتوقف قلمي عندها، وتعافني الكتابة بأشكالها التي كان يغنيني التعايش معها كمنفث لما تعتلج به الأنا.. الأنا التي لم أكن أتيقن أنها سوف تكون مبدعة، بمعنى منتجة لإبداع أدب يثمر ويزهر، ويمكن وضعه على الميزان النقدي للأدب وتجلياته.

لم يغب ضمير الأنا عن العبث في المخيلة المشحونة بالأرق – الذي لم يكن فاعلا حتى تلك اللحظة – دونما إبحار عبر ورق وقلم، حتى لفظني اجتيازي لدراسة ملزمة، إلى خضم التفاعل مع ما حولي متحررا من قيد الانتظام الممل الذي تأباه نفسي، وتغيب في أسره الأنا المبدعة التي ناوشتني بأطراف من خيالها المراوغ، مواجها للأذرع الخفية المخيفة لأحوال الحياة الضجرة المتقلبة.. عملية مواجهة كاشفة مع عالم جديد متناقض، ولم يبد منه بعد ما أصر على الاحتجاب والتستر، لينطرح سؤال الكتابة والاكتتاب ملحا، وتطفو فيه الأنا محطمة للقيود والأغلال – معنويا – ويخرج ضمير الكاتب ليكتتب ذاته مؤطرة بفعل الفن المبدع، مع فعل الأحوال المحدقة بالحياة.. سمها قدرية إن شئت..

أراه – فعل الأنا المبدعة – في بعض شطحاتي الذهنية، ماردا، وخرج من قمقم ليواجه قمع الحلم بالحلم المضاد، واكتتاب الذات كموجة من موجات تيار الوعي، الذي لم أكن تعرفت عليه كمصطلح، فربما تعرفت على الشيء، ولم تتعرف بعد على مسماه – كدرس من دروس الإبداع المؤلم والممتع معا – فقد شرَّحت ذاتي للمرة الأولى في قصة – هي في هذا الوقت تكاد تكون محكمة – أسقطتها من حساباتي المفعلة، رغم إعادتي لصياغتها في ثوب جديد فيما بعد..

ثم توالت الإسقاطات من ذاتي على ما حولي في محاولات إبداعية أولية، كُتب لبعضها النشر في زوايا أدبية للمبتدئين في بعض المجلات الخليجية غير المتخصصة، كما كتب لبعضها الآخر حق الوجود في متن مجموعتي القصصية البكر “على حافة الحلم” (1987/2003) التي كان بين الانتهاء من كتاب قصصها ونشرها مجمعة أكثر من عشر سنوات عجاف!! حتى قامت من رقادها بطبعة متواضعة؛ لكنها أغنتني، وأقامت صلب إبداعي من جديد، ويسرت لي الوقوف بجد على العتبات الأولى لمعانقة الواقع الإبداعي الجديد المفارق لما عشته في أواخر العقد التاسع من القرن العشرين، وبداية عقده الأخير، فنالت من الاستحسان النقدي والإبداعي ما دفعها ودفعني إلى الأمام؛ فنوقشت في الإذاعة المصرية “مع الأدباء الشبان” وناقشتها الكاتبة الكبيرة فوزية مهران، وتنبأت بكاتب من كبار كتاب القصة القصيرة – هكذا قالت وشهدت والله على ما أقول شهيد – وكُتب عنها في المجلات والدوريات ما أقنعني بداية بأن أستمر وأقاوم تيارات المد والجزر فيما حولي.

حتى صار جزءا من نهجى أن أتابع حلقات الأنا في مسلسل كتابات لا تعرف الفرق فيها بين الأنا والآخر الممتزج بها، من خلال ثيمات عديدة تنوعت بين الحلم والواقع والرمز، بقدر مقومات المرحلة الإبداعية سمه ما شئت: تماه.. توحد.. انشطار متبادل.. إحلال.. علاقة طردية، أو أطراف من كل تلك المعاني مجتمعة.  فكانت مجموعتي القصصية الفتية التي فتحت لي آفاقا جديدة متسعة في فضاء الإبداع الرحيب “وخز الأماني” (2004) أو سمها طوق النجاة الثاني الذي فتح لي بابا رحيبا للتلقي ومساهمات النقد في تأطير ما يمكن أن أسميه “شكلي الجديد” على الأقل على مستوى التلقي والحضور، والمحافل الثقافية، فكتب عن الوخز بأقلام أكثر انتشارا وتمرسا وعلى صفحات أخبار الأدب وحواء والأسبوع والعرب الدولية والثقافة الجديد، وغيرها وغيرها، كما نوقشت في البرنامج الثاني الثقافي بين قمتين إحداهما إعلامية وهي الدكتور الأديب عادل النادي، والآخر مبدع القصة القصيرة وترجمتها عن الروسية د. أحمد الخميسي، ولتتوالى الاعترافات بحصولي على عضوية نادي القصة المصري العريق باعتماد القاص الكبير المجدد يوسف الشاروني.

حتى وصل القلم النازف بدم الأنا إلى مرحلة تبادل الأدوار بين تيار الأنا الخالص، وتيار الأنا الشاهدة على آلام الآخرين وانكساراتهم، إلى جانب شعورهم المراوغ بالأمن والسعادة.. ذلك الشعور المتفلت الذي بلا حابس ولا ضامن.. ذلك التسرب الذي يوحد بين الأنا المبدعة والآخرين؛ فتظهر كأنها آلامها وتباريحها.. هكذا جاءت “وخز الأماني”  أو وخز الذات حين تشعر وتتماهى مع ذوات الآخرين. ولتدور الأيام دورتها لتصنع هاتين المجموعتين المؤسستين وحدتهما العضوية الممتدة والمتواشجة والمتلاحمة على مستوى الفكرة والعبارة، لتضمهما طبعة ثانية منهما في مجلد واحد هو “أجراس صغيرة” (2017) لتظل هذه الأجراس تدق لتعيد للأنا بريقها الذي ربما تخفى في نماذج القصص التي كونت المجموعات القصصية اللاحقة عليهما التي انطلقت لتعانق العالم الخارجي برموزه وتعالقاته وعلاقاته المتوترة، ولتملس سطحا مشدودا، ثم تتجاوزه إلى رحابة المدى وما وراء الأشياء..

ثمة انفصال شكلي للأنا في إبداعات تعبر عن أنا(ت) الآخرين في كتابات لاحقة على هذه الحقبة/ النوعية، لكن في يقيني أنه لا يمكن إقصاء الأنا من أطراف معادلة الكتابة الصعبة التي لا تستقيم إلا بفعل الذات/ الذوات التي يتشكل منها الفعل الإبداعي، والفعل الإنساني، المصدر الرئيس الذي لا ينضب للفعل الإبداعي. بما يدحض ذلك الميل الادعائي بأن المبدع إذا لم يجد شيئا يكتبه، فإنه يتجه إلى داخله يستجلب منه ما يعيد الحياة إلى قلمه ..كيف، والأنا المبدعة هي الدافع الأصلي للكتابة، وللحياة؟!   


محمد عطية محمود كاتب وناقد مصري، مواليد 1968، عضو اتحاد كتّاب مصر، وعضو نادي القصة المصري، ومحاضر مركزي بالهيئة العامة لقصور الثقافة، حصل على عدد من الجوائز منها جائزة اتحاد كتاب مصر للرواية 2013. من مؤلفاته: «دوامات الغياب» – رواية، «بهجة الحضور» – رواية، «على حافة الحلم» – قصص، «وخز الأماني» ـ قصص ، «في انتظار القادم» – قصص، «عيون بيضاء» – قصص، «أجراس صغيرة» – قصص، «جمر اللحظة» – قصص، «من دفتر أحوال الغجرية» – نصوص قصيرة جدا. وفي الدراسات النقدية: «تجليات سرد الحياة.. قراءة في أدب نجيب محفوظ»، «إشكاليات الهامش.. تجليات المتن»، «ملامح روائية: قراءات في روايات الألفية الثالثة»، «إشكاليات الهامش .. تجليات النص في نماذج من الرواية الإسكندرية»، «القصة القصيرة وأسئلة الوجود».

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s