هناء غمراوي
الصورة: زينة عيد الميلاد بعدسة الكاتبة
نحن في النصف الثاني من شهر ديسمبر من العام الثاني لوصول الجائحة. مدينة نيويورك تستعد لاستقبال الأعياد بخفرٍ وحذرٍ شديدين. ذلك ان المدينة ما زالت تلتقط انفاسها بعد أشهر الحجر التي تجاوزت حدود السنة. وطالت كافة المرافق الحياتية، بما فيها المطاعم والمسارح ودور السينما وكافة أماكن اللهو والترفيه.
هذه السنة لن يمنع الوباء المستجد والمتحول “أوميكرون”، والذي تجاوزت اعداد المصابين به حدود الآلاف في خلال أسابيع قليلة، لن يمنع سكان نيويورك من الاحتفال بعيدي الميلاد ورأس السنة، وبخاصة مع اصرار عمدة مدينة نيويورك” بيل دي بلازيو” على الاحتفال بليلة رأس السنة في “تايم سكوير” ولن يحذو حذو أوروبا بالدعوة للإقفال مجدداً.
ومن يتجول في الشوارع ليلا يلاحظ وجود زينة وأضواء متلألئة على الشرفات. وفي الواجهات الأمامية لبعض البيوت التي بذل أصحابها جهداً ومالاً ملحوظين، لإظهار أجواء البهجة والفرح بقدوم الأعياد المجيدة.
تقليد اّخر يطبقه النيويوركيون احتفاء بقدوم هذا العيد؛ وهو حضور العروض المسرحية، وبخاصة عروض فرق رقص الباليه، وأذكر أنني حضرت عرضاً من هذا النوع على أحد المسارح في بروكلين في مثل هذا الوقت من السنة، ولكن قبل سبع سنوات خلت. حيث كنت في زيارة قصيرة لم تتجاوز الثلاثة أسابيع. كان عرضاً مسرحيأ راقصاً استمر لمدة ساعتين كاملتين. شارك فيه أكثر من خمسين راقصأً وراقصة ترافقهم اوركسترا كاملة في عزف كسارة البندق لتشايكوفسكي.
السنة الماضية لم نشاهد اي عروض مسرحية خلال فترة الأعياد بسبب الاقفال العام، الذي كان مطبقاً آنذاك. استطعنا أن نشاهد فقط المغنية الأميركية، جنيفر لوبيز عبر النقل المباشر لإحدى القنوات التلفزيونية. حيث قدمت عرضا غنائيا في ” التايم سكوير”، والذي اكتفى النيوركيون، وكافة المتابعين لهذا العرض بمشاهدته عبر التلفاز فقط. لأن قانون الحظر والتباعد الاجتماعي كانا ينفذان بشدة وصرامة ذلك الوقت.
عرض الباليه، الذي حضرته هذه السنة كان في أحد مسارح برودواي في مانهاتن. وقد اتخذت تدابير وقائية مشددة على الحضور استدعى اضافة الى وضع الكمامة” ماسك” على الأنف والفم؛ ان يبرزوا قبل الدخول البطاقة التي تثبت تلقيهم جرعات اللقاح المطلوبة ضد كورونا. هذا التدبير الاحترازي جعل عملية الدخول بطيئة وغير سلسة. فمع وجود موظفين للقيام بمهمة التدقيق بشأن بطاقات التلقيح والتأكد من حق الدخول. فقد امتد خط الداخلين الى مبنى المسرح الى مسافة أمتار في الخارج، على رصيف الشارع المؤدي اليه.
كل التدابير والخطوات الاحترازية، التي اتبعت قبل الدخول إلى المسرح، لم تؤخر ابتداء العرض دقيقة واحدة. “شعب يحترم الوقت” رددت في سري، وانا أجلس في مقعدي في الرقم الموجود على بطاقتي. لا ازدحام، ولا ضجيج، ولا خلاف على الأمكنة.
نظرت حولي فرأيت أن قاعة المسرح قد امتلأت بكاملها في سرعة زمنية نسبية. وما زال أمامنا عشر دقائق على بداية العرض. عشر دقائق كانت كافية لإلقاء نظرة سريعة على النشرة “البروشور” التي زودونا بها أثناء الدخول. بسرعة عرفت أن العرض هو من إعداد فالنتينا كوزلوفا وهو بعنوان “نات كراكر، سويت” لعل المقصود بحسب التعريب؛ جناح كسارة البندق!
تمام السادسة اعتلت المسرح سيدة انيقة، بدت بكامل رشاقتها وجمالها مع أنها ربما تكون قد تعدت الستين من عمرها. حاولت جاهدة أن أفهم منها بعض العبارات السريعة، التي ارادت أن تقدم بها المشاركات في العرض بعد ان رحبت بالحضور وتمنت لهم أمسية جميلة.
ابتدأ العرض، الذي تبين انه مختلف عن كل العروض التي شاهدتها من قبل. وأنا لا أدّعي انني كنت يوماً من رواد المسرح الدائمين في حضور هذا الفن الجميل. ولكن هذا لم يمنعني من حضور العديد من العروض، التي كانت تنقل عبر الشاشة الصغيرة، وبخاصة عروض الفرق الروسية المعروفة والأشهر.
أول ما لفت نظري دخول مجموعة من الفتيات، أعمارهن بين الثالثة عشرة والخامسة عشرة؛ وكان ذلك واضحاً من قاماتهن وحركتهن على المسرح.
الملاحظة الثانية، والملفتة أن ملابس الراقصات لم تكن قصيرة جدا وبيضاء، وتكشف عن السيقان بحيث تبدو الراقصة وكأنها تشبه البجعة، أي نوع آخر من الطيور، الزي التقليدي المتعارف عليه. ملابسهن كانت بألوانٍ زاهية، ما بين الوردي الفاتح جداً الى الأزرق السماوي، الى الأبيض، الذي يتماوج بين اللونين ويجعل الألوان كلها تتمازج وتختلط بينما كن يحاولن الدوران على رؤوس الأصابع فتدور معهن فساتين الرقص بحركة انسيابية بديعة تستمر لدقائق قبل أن يغادرن وتحل مكانهن مجموعة أخرى وبملابس مختلفة.
أخذنا العرض الذي استمر لساعة كاملة دون أي توقف، كنا نتابع فيها حركات الراقصات التعبيرية، التي كانت تريد ايصال قصة، أو رسالة معينة من خلال هذا العرض المميز، والذي شاركت فيه حوالي خمسين راقصة. كان من بينهن عدد من الفتيات اليافعات، تلميذات معهد فالنتينا كوزلوفا. الى جانب بعض الراقصات المحترفات، اللواتي أدين عروضا منفردة ومنسجمة في نفس الوقت مع العرض العام.
كل ذلك كان عاديا ومألوفا. الظاهرة الغير مألوفة كانت ظهور عدد من الراقصات بأزياء لا تمت الى أزياء رقص الباليه التقليدي بأي صلة. لا من حيث الشكل ولا من حيث اللون. حيث ظهرت إحداهن بزي أحمر اللون مكشوف البطن يشبه الى حد ما أزياء الفراعنة القدماء. وظهرت أخرى بثوب أزرق يغطي الركبتين، وبكمين قصيرين مع تطريز واضح على الأطراف. أما الراقصتين الأخريين، وكانت احداهما صبية جميلة سوداء، من أصول أفريقية وقد تميزت عن زميلاتها بأنها كانت أطولهن قامة وأكثرهن امتلاء. فقد ارتدتا اللونين الأسود والأحمر معاً. الفتاة الأفريقية ارتدت القميص الساتان الأحمر مع تنورة سوداء تصل حد الركبتين. أما الفتاة الرابعة التي كانت تحمل المروحة بيمينها فقد ارتدت صديريا أسودَ مكشوف الكتفين، فوق تنورة حمراء واسعة تغطي الركبتين. الزي التقليدي لشعوب الشرق الأقصى؛ “الصين، كوريا، وتايلند..” يبدو أن هذه اللفتة الفنية، جاءت لتذكر الحضور بأن فن الباليه وإن كان روسي المنشأ فإنه لا بد أن يصبح عالميا جامعا، عندما يعرض على مسارح نيويورك.
مرة أخرى أعبر عن تقديري لثقافة الانفتاح التي تعيشها هذه المدينة، والتي تتجلى بأبهى صورها في أسلوب حياة، وطريقة عيش.


