حنان عبد القادر
اللوحة: الفنان الفرنسي جين جوليان
لا أدري لم أصر إلى الآن – أنا المتخلفة حضارياً – على عدم اقتناء هاتف حديث به إمكانات حضارية كما يقول أصدقائي، وهم في حملة شعواء الآن لإرغامي على تغيير موقفي، فكلهم بلا استثناء يتعاملون “بالواتس آب”، ويتراسلون على “الإنستجرام”، ويتحادثون على “الفايبر” ليل نهار، وكثيرا ما يتفقون على شيء أكون آخر من يعلمه لأن “الجروب” كله عرفه على الواتس، ولم يصلني بالطبع، وينسون أني الوحيدة المتخلفة التي لا تقتنيه، وعندما يستدركون الأمر يضطر أحدهم لمهاتفتي كي يخبرني، لكن قبل ذلك لابد أن يسمعني سيلا من النصائح المغلفة بالضجر من إصراري وتخلفي، وجل ما أخشاه أن أرضخ في النهاية، وأضطر اضطرارا لمجاراتهم، ووقتها سأشعر بالفعل بمدى تأخري التكنولوجي عنهم جميعا.
وقتما هب هبوب “الآي باد والآي بود”، كنت أقتني “الميني لاب” أحدث وأصغر أنواع الكمبيوتر، وقد حرصت على اقتنائه لييسر علي عملي، فعليه أحفظ كتاباتي وأموري الشخصية فقط، ويمكنني اصطحابه معي في أي مكان دون معاناة، لذا اعتبرته حافظا لأفكاري وبديلا مؤقتا لمفكرتي التي ما أستغني عنها وقلمي الرصاص الذي يملؤني حنينا كلما نظرت خطه على أوراقها، وقتها ما تخيلت أن يغزو عالمي الآي باد بتلك السرعة، كلما نظرت حولي وجدته أو حفيده، في المطعم، في النادي، في المسرح، في السينما، في الملتقيات والندوات، حتى في المحاضرات العلمية، الأدهى من ذلك أنه غزاني في عملي وأصبح مطلوبا مني أن أقتنيه بنفسي لأستخدمه في العمل، بل الأمَرُّ أن أجده الآن في بيتي وسيارتي وأخاف أن أغفو فجأة فأجده ثاويا تحت جلدي.
سيقول متعجب: مابالها تلك المتخلفة، ألا ترى صيحات التكنولوجيا تحاوطنا في كل مكان؟ ألا تعلم أن العالم يتقدم كل ثانية بسرعة لايمكن للبيب اللحاق بها؟ ألم تستشعر ركض الحياة حولها؟ وأقول: بالفعل، إنها الحياة، ربما لا أستوعب بعد كل ما تظن، وأعترف أني متخلفة حمقاء، متخلفة لأني أخشى أن تضيع مني الساعات وأنا أرد على ترهات الزملاء والأصدقاء حتى لا يجدوا سبيلا لملامتي، متخلفة لأني أفضل احتضان كتاب حنون يتفهمني إن تركته، ويعاودني بدفء إن عاودته على احتضان قطعة باردة لو لم أرد على متحدثيها انصرفوا حانقين ظنا منهم أني أهمل الحوار معهم أو لا أقيم لحديثهم وزنا، متخلفة لأني أوثر الحديث مع الناس وجها لوجه، وأفضل الاجتماع بهم في الحقيقة عن جمعتهم في الخيال يحول بيني وبينهم جهاز عقيم، متخلفة لأني أربأ بنفسي عن التوحد والعزلة الاجتماعية، فكلما أجلت بصري وجدت أفرادا ينشغلون بما لديهم من أجهزة عمن حولهم من صحبة، يتحلقون طاولة الطعام تمتد الأيدي له دونما متعة، أو يجلسون في جلسة ترفيه أو في اجتماع عائلي، بينما كل منهم يحني رأسه ويُرقِّصُ أصابعه على جهاز بين يديه متفقدا ما لديه من حديث مع أشخاص غائبين عن الجلسة حاضرين بترهاتهم داخل قطعة جماد، بينما فقدت جمعتهم الحقيقية واقعيتها، وصاروا أجسادا تجلس وتتحرك، وتأكل بلا حميمية حقيقية، وبلا حديث مشترك يجمعهم، أو ضحكة من القلب تؤلف بينهم، موجودون نعم بأجسادهم، لكنهم متوحدون بأنفسهم.
هذه اللقطة تتكرر كل لحظة في العمل، في البيت، في الشارع، في كل مكان، ولقد علمتني الكتب أن الإنسان كائن اجتماعي، يجد سعادته في الاحتكاك الحميم بالآخرين والتفاعل الإنساني معهم، علمتني أيضا أن الإنسان الذي يفقد القدرة على التواصل الاجتماعي إنسان مريض علينا إخضاعه للعلاج النفسي حتى يثوب إلى الحياة، لكننا نتحول شيئا فشيئا إلى كائنات وحيدة متوحدة، لاتجد ألفتها مع أناس من لحم ودم، إنما متعتها مع شخصيات افتراضية، تحادثها من خلال جماد، فتأتلف مع ذاك الجماد الذي لو تعطل لحظة لتوقفت الحياة.
ماذا لو أعدنا حساباتنا، وتعاملنا مع صور التكنولوجيا بما تقدمه لنا من فائدة، مهمشين ما تجره علينا من ترهات؟!
ماذا لو تعلمنا منها أن نكون منتجين مبدعين غير مستهلكين ولا منقادين لما يريده الآخر منا لا ما نريد أن نكونه نحن؟!
ماذا لو أقصينا الإفراط والتفريط في استخدام تلك الأجهزة، ووضعناها في حجمها الحقيقي، واستخدمناها للتيسير لا لإهدار الوقت وتهميش الذهن وتأجيل الأحلام بل تضييعها؟!
هل سيبقى وقتها متخلف مثلي يتحرز من اقتنائها، ويحجم عن استخدامها ؟!