اللوحة: الفنان الجزائري خالد بوكراع
حفل استقبال
وَجَدْتَني في حفلِ كبير، يضم من مات من الأهل والأحباب، على رأسهم”أمي”، كانت كما هي، كأنما لم تغَادِرني من سنوات بعيدة،بنظرتها الدافئة،بعينيها اللامعتين التي كانت تستقبلاني دومًا بالترحاب.
أزعم أنني لم أنطق بكلمة، فقد تملّكَتْني حيرة، لكنّي تجاهلتها إلى حين. تعجّبت وبدت دهشة غامرة على وجهي، حينما امتدت يد خالي الراحل، لتجذبني برفق من ذراعي،يهمس بأذني:لا تزال على عَهدِكَ القديم، تتشكك في كل شيء، رجاء لا تُفسد علينا حفلنا.
كِدتُ أن أطرح عليه عشرات الأسئلة، لكنّي تذكّرت أنهم لم يجتمعوا أبدًا على لحظة صفاء كهذه، لذلك استحييت أن أقطع عليهم فرحتهم الغامرة، خاصة بعدما مُدت طاولة خشبية كبيرة، عامرة بعشرات الأصناف من الطعام، بعضها أكلته من قبل، أخرى لم أرها. كان الجميع يأكلون بحبور، تستقر سعادة على وجوههم، على رغم هذا أجزم أنني لمحت آيات الفناء تطلّ من محاجرهم.
لم أجلس معهم، فلم يدعوني أحد، تلك فضيلة تربّيت عليها، ألاّ أتطفل على موائد الغير، لكن زادت حيرتي حينما لم تلتفت إليّ،” أمي”. بدا أنها غير راغبة في مكوثي معهم.
فغمرني احراج أكبر، استأذنت في الانصراف، قلت لتبرير مغادرتي للمكان: مشاغل كثيرة تعيق وجودي معكم، فعُذرًا،ثم مضيت بسبيلي، خلفي ترتفع ضحكاتهم إلى عنان السماء. حركات وأصوات ارتطام الملاعق بآنية الطعام تأتيني من بعيد ” كسيمفونية” لا زالت عالقة بقاياها في أذني. لمّا صحوت من نومي، شعرتُ بغصة في حلقي، احساسِ بعطش شديد، أسرعت إلى ” المطبخ” لأجد في استقبالي فوضى عارمة لم أشهد مثلها .
حق العودة
ولأن الُلقيا دومًا دون موعد، فقد التقيته أثناء عودتي بعصر أو مغرب أحد الأيام، لا أتذكر الوقت بدقة،إذ كان ذلك من عهد بعيد، لكنّي أظن أن الليل كانت تقترب بشائره.
وجدته يُقبل عليّ ببشاشة وجهه، بسمته الصبوح، سلّم كأنما يعرفني من دهر، بدوري احتفيت به كأنه صديق قديم.
صَحبني المسافة الباقية،تسامرنا معًا، عرجنا على موضوعات كثيرة، كلما انتهيت من واحد، التقطَ الخيط هو بدأ في آخر، أزعم أن ضحكاتنا ارتفعت حد السماء، أن الناس من حولنا قد أصابتهم غيرة شديدة، سرعان ما انقلبت لغلّ استقر بمآقيهم، على أننا لم نلتفت إليهم،أكملنا طريقنا، انشغلنا بما بين أيدينا..
ولمّا وصلنا إلى مفترق طرق،أمسكت يده لنعبر الطريق السريع، غير أنه أنكرني من جديد، اِنْفَلَتْ من بين يدي،لوّح مودّعًا،قال وقد بدا أسى على وجهه :عُذرًا،الليل أوشك.
فقلت: لنا حق العودة معًا، فهلمَ إليّ أو معي، أو دعني أمضي معك.
ثم صِحْتُ بلوعة: هل أعود وحدي؟ من دونك؟ لكن ضاع صوتي بتأثير نوافير صاخبة تنطلق من سيارات تنهب الأرض، ناديته كثيرًا، غير أنه لم يسمعني، كأنني رأيت دموعه تتدفق ساخنة، تنساب على الأرض، لتحفر أخدودًا أخذ يتسع رويدًا حتى صار بحيرة مالحة تفصل بيني وبينه.